يعتبر تقديس الأشخاص من الأمراض المزمنة في العالم العربي، ومصنعا لإنتاج وتوزيع الجهل والتخلف وتعطيل مسيرة الحياة الطبيعية. ولم تبتلى أمة بهذا المرض كما ابتليت به الأمة العربية، فما أن يبزغ شخص في أي بقعة من الوطن العربي في مجال الفكر أو السياسة او العلوم الدينية، حتى يبادر مجموعة من الجهلة بطبائع الإنسان والتي منها حب الظهور، إلى وضع هالة من القدسية حوله، تجعل من انتقاده بقول أو فعل من الموبقات التي قد تدفع بمعجبيه إلى خوض حرب ضروس بالقلم واللسان وربما تتطور الى العنف الجسدي.

إن تقديس وتعظيم شريحة صغيرة من افراد الأمة وحصر الحقائق في كل ما يصدر عنها من اقوال او أفعال هو من أسباب تخلف الأمة العربية وجهلها بحقيقة النقص او عدم الكمال البشري الملازم لجميع البشر بما فيهم من يعتبرون عظماء ومبدعين. يجب ان نوضع حدا فاصلا بين التقدير والاحترام الشخصي لهؤلاء المبدعين والمتميزين وبين النقد البناء لفكرهم وابداعهم في تخصصاتهم، فتوجيه النقد البناء لمبدع او متميز لا يعني عدم احترامه او الانتقاص من مكانته العلمية، فالنقد البناء باعتراف جميع العقلاء عبر التاريخ الإنساني عمل إيجابي. وكيف لهؤلاء المبدعين والمتميزين القدرة على تطوير فكرهم وابداعهم اذا لم يلفت انتباههم الى جوانب ضعفهم ليتمكنوا من تلافيها وتصحيحها.

كما إن تعظيم فرد من أفراد الأمة وحصر الحقيقة فقط فيما يقول أو يكتب من الأسباب الرئيسية لتخلف هذه الأمة وواحدة من الطرق المؤدية إلى السقوط في الهاوية، لأن أصالة النقص البشري أرسخ من احتكار المعرفة المطلقة التي تنتج عن تقديس الأشخاص مهما كانت مستوياتهم العلمية والفكرية. إذا بالغت أي أمة من الأمم في تعظيم فرد واحد من سالف علمائها أو حصرت فهم الحقيقة ببضعة أفراد ممن كان لهم نصيب من التميز أو الشهرة من أبنائها وتوقفت بمعارفها عند انجازات أولئك الأفذاذ، فإنها بذلك تعلن أنها تجهل أصالة النقص البشري الملازم حتى للعظماء المبدعين عبر التاريخ، كما تجهل أن لكل جيل نصيبه من العظمة والإبداع وأن المعرفة الإنسانية عملية تراكمية تنمو وتتطور باستمرار.

وعلى ضوء ما سبق، لا بد للأجيال الحالية أن تفهم، بشكل عقلاني بعيدا عن العواطف والانفعالات، أن تقديس الأشخاص يعتبر من الأمراض النفسية يحتاج علاجا واقعيا وفهما صحيحا للأشياء بعيدا عن التعصب، فبعض العقليات السائدة والرائجة هذه الأيام تحاول تصوير نقد العلماء ورجال الدين والفكر والسياسة على أنه خيانة عظمى في حق هذا العالم أو ذاك المفكر.

وأصحاب هذا التعصب الأعمى لا يدركون أن النقد الهادف والبناء أداة تساعد على تصحيح أخطاء المنتقَد إن كانت له أخطاء، وهذا لا ينتقص من مكانته العلمية او مقامه الشخصي أصلا، وقد آن الأوان أن يفهم الجميع، شيوخا وشباب، أن لا أحدا فوق النقد مهما كان، ومن خلال النقد البناء يمكن تقويم الخلل والخطأ.

ثقافة تقديس الأشخاص لن تختفي من المجتمعات العربية إلا اذا محونا من كل قواميسنا اللغوية مفردات من قبيل "الرموز التي لا تمس والذوات المقدسة". ولعلاج هذه المشكلة لا بد من الاعتراف بوجود فرق واضح بين النقد البناء الذي يبرز الإيجابيات ويشيد بها، ويعالج السلبيات ويصححها بأسلوب حضاري وانساني يبتعد عن التجريح وتناول ذات الشخص الذي نريد نقد بعض من أفكاره. كل شخص يتعرض للشأن العام مهما كان موقعه في المجتمع (رئيس دولة او وزير او رئيس حزب سياسي او رجل دين) هو بشر يصيب ويخطئ. ثقافة التقديس تخلق الفراعنة.
اقوال في تقديس الأشخاص:
• تقديس الأشخاص داء جسيم يعبر عن الجهل والتخلف ويفقد الذات والمنطق للفرد والمجتمع. "غمكين كردستاني".
• أول علامات النضج هو التخلي عن تقديس الأشخاص. "وليم شكسبير".
• لا تبالغ في تقديس احدهم فتصدم، ولا تبالغ في ذم آخر فتظلم، كن معتدلا. "جي كيه شسترتون".
• الانعتاق من تقديس الأشخاص يأتي في مقدمة الشروط الأساسية للنمو والتقدم. "قاسم محمد داود".
آخر الكلام: كل الهزائم العسكرية التي منينا بها منذ منتصف القرن الماضي، والحروب الأهلية التي تعصف بأكثر من بلد عربي منذ انتفاضات الربيع العربي والى يومنا هذا، كانت بسبب هذه الثقافة المغيبة للعقل والقاتلة للإبداع.