أنا مستسلم لإرادة الحياة.

تسليم...

جربت السجن لأول مرة في حياتي.

إنه كالموت تسمع الناس يصفونه ويخشون حلوله، لكنهم لا يعرفونه حق المعرفة إلا إذا حضر. وهو قوة جبارة جرافة، يفتك بفريسته، يشل أطرافها، يخدر فيها الإحساس والإدراك، ويصب في أحشائها الجنون.

السجن هو الموت بلحمه ودمه.

السجن هو الموت المتجدد والعذاب اللانهائي.

السجن هو هذا الوباء الشيطاني الذي يحدق بنا من كل جانب.

السجن هو هذه الفتنة الكبرى القاطعة للأرزاق والمفرقة بين الأب وابنه والمرء وزوجه...

لم تكن المئة يوم من العزلة التي عشتها في زمن الوباء الخربان العفن الرديء الكئيب المضروب بلعنة الشياطين والناعقة في سمائه أسراب البوم والخفافيش... لم تكن أيام الحجر المنزلي خالية من المعنى؛ بل كانت المعنى ذاته لمن أراد أن يعتبر، وكانت مفعمة بدروس الحياة لمن وعى واستبصر.

وفي خضم الحجر، في غياهب هذا السجن، كنت دائما أتساءل: "كيف لي أن أتحمل كل هذه المعاناة وأنا الرجل الحر العاشق للسر الإلهي المقدس المخفي في إشراقاته وتجلياته الكامنة في كل ألوان وحركات الحياة؟".

كنت أشتغل نادلا لكن لم يكن ثمة عمل لأمثالي في زمن الحجر.

مئة يوم من العزلة. مئة يوم دون عمل لأن كل المقاهي مقفلة حتى إشعار آخر.

وكانت لدي مدخرات قليلة لأني تعودت منذ سنوات على أن أصرف كل ما أربحه لإيماني الراسخ بشعار وضعته دوما نصب عيني: (المال مثل الدماء في جسم الإنسان.. يجب أن لا يتوقف عن الدوران!).

ولكن مهلا... ما هذا الهراء؟ حتى الشعارات يجب أن تتغير وتغسل، تماما مثل الجوارب!

أنا مستسلم لإرادة الحياة.

تسليم...

ولذا أشار علي العقل وأنا حبيس الجدران الأربعة بلا عمل بأن أقتلع فكرة الاستهلاك من نفسي المعذبة لأقتات بما بين يدي من مدخرات، وإن لم يكن للعقل صوت يسمع في ضجة الحياة وأعاصيرها الهوج، فإن لغريزة البقاء صوتا يعلو على سلطان العقل.

ما العمل وجنوني يستفحل؟ ما العمل وأنا بلا عمل، ونفسي ضاعت مني فجعلت أرمقها بعين الرثاء والأسى؟ ما العمل؟

الطريق طويل والزمن طويل، وما السجن بجولة خاسرة ولكنه مدرسة لكل شيء...

مستسلم أنا لإرادة الحياة.

تسليم...

وإن كان الحجر هو السجن فهل يموت إنسان في السجن من الجوع أو العطش أو الحر أو البرد أو التعذيب أو الأمراض؟

لا أعتقد... لأنه يموت من الانتظار الذي يجرد الأشياء من معانيها فيحول الزمن إلى اللازمن، والشيء إلى اللاشيء، والمعنى إلى اللامعنى..

الحجر هو السجن، لكن لا شيء ينتهي داخله، بل هو الطريق والوصول، البداية والنهاية؛ إنه ذلك الشوق العارم المجنون إلى معانقة الحرية. إنه نقطة السكون والتأمل الهادئ المستنير في عالمنا المتحرك.

وفي بوتقة السجن يبعث القلب من موته يتطهر ولو كان مطبوعا على الشر مشبعا بالآثام... وإن كنت قبل الحجر أعيش أيامي على إيقاع اللامبالاة وطوفان الشهوات، فإنه آن لي اليوم، في سجن الوباء الشيطاني، أن أتعلم من الألم أكثر مما تعلمت من اللذة، وأن أستلذ الشجا، وأن أشدو بترانيم الحزن المطهر للروح من الصدأ.

مهدي عامري