يأتي هذا المقال بعد عرض رئيس الحكومة للبرنامج الحكومي أمام غرفتي البرلمان يوم الخميس 19 يناير 2012، وقد تضمن هذا البرنامج أفكارا مهمة في مجال السياسية الخارجية التي ستشكل خريطة طريق للدبلوماسية المغربية خلال الولاية الحكومية الحالية. المقال هو محاولة لإثراء النقاش ليس حول مضمون البرنامج فقط، بل حول إعادة التفكير في فلسفة السياسة الخارجية المغربية وموقع المغرب في المنظمومة الجهوية التي طرأت عليها تغيرات عميقة خلال الشهور الماضية بفضل انتفاضات "الربيع العربي" التي عصفت ببعض الأنظمة وهزت أركان البعض الآخر.

الطموح الدولي للمغرب

منح الدستور الجديد للحكومة سلطات جديدة في المساهمة في تحديد التوجهات العامة لسياسة الدولة سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي مقارنة مع الدساتير السابقة. فرغم أن الدستور الحالي أعطى للمجلس الوزاري سلطة التداول في التوجهات الإستراتيجية لسياسة الدولة (الفصل 49)، فإن الحكومة هي التي أصبحت تمارس السلطة التنفيذية، وتعمل تحت سلطة رئيسها على تنفيذ البرنامج الحكومي (الفصل 89). ويستنتج من منطوق نصوص الدستور الحالي أن السياسة الخارجية للمغرب انتقلت دستوريا من المجال الخاص والمحفوظ للملك إلى التدبير المشترك بين الملك والحكومة؛ غير أن هذا الاستنتاج يظل عالقا ما لم تصدقه الوقائع السياسية التي ستعكسها طبيعة العلاقة الفعلية، وليس الدستورية بين الملك والحكومة في هذا الجانب من تدبير السياسة العامة للدولة.

التحدي الأول أمام الحكومة الجديدة هو تبني رؤية واضحة ومتكاملة لموقع المغرب ودوره في النسق الجهوي والدولي الجديد الذي يشهد تغيرات عميقة وسريعة. لقد مر زمان طويل على المغرب منذ الاستقلال، وهو يتفاعل مع الفضاء الدولي مؤسِّسا لعلاقات دولية واسعة مع مختلف المحاور الدولية والجهوية، مستندا في ذلك على شبكة دبلوماسية في مختلف جهات العالم، لكن ما كان يعاب على النشاط الدولي للمغرب عدم استناده على تصور واضح ومتكامل للسياسة الخارجية. وهنا لا بد من التمييز بين السياسة الخارجية التي تحيل إلى التصور الذي يحدد سلوك الدولة الخارجي والطريقة التي تقود بها الدولة نفسها في الفضاء الدولي، وبين الدبوماسية التي هي عملية تنفيذ لذلك التصور؛ لذلك فبدل أن يكون المغرب فاعلا، كان في غالب الأحيان منفعلا أو في أحسن الأحوال متفاعلا مع المتغيرات الدولية.

ينبغي للطموح الدولي للمغرب في هذه المرحلة التاريخية الحاسمة أن يذهب بعيدا، يكون من بين أولوياته السعي لتشكيل تحالف جهوي قوي ومتماسك على مستوى العالم العربي والإسلامي، يضم الحكومات التي تمخضت عن الربيع العربي، بالإضافة إلى الحكومات الديمقراطية في بعض الدول الإسلامية، مثل تركيا وماليزيا واندونيسيا... يمكن لهذا التكتل الجهوي أن يصوغ سياسة خارجية منسجمة ومستقلة عن مراكز التأثير الغربية، كما يستطيع أن يطلق بعض المشاريع الكبرى التي من شأنها أن تعبد الطريق أمام التكامل الاقتصادي في العالم العربي والإسلامي.

لا مجال للمقعد الشاغر

لقد أتاحت انتفاضات الربيع العربي للمغرب العودة إلى الساحة العربية بقوة خاصة في ليبيا، لكن هذه العودة لم تَرْقَ بعد إلى مستوى جعل المغرب فاعلا أساسيا في الخريطة السياسية العربية التي تتشكل الآن. خلال التجربة الحكومية الحالية التي يقود فيها رجل سياسي يتقاسم مع الحكومات الجديدة التي تمخضت عن "الربيع العربي" المرجعية الفكرية نفسها يُفترض أن يتعزز الحضور المغربي في المنطقة، ولما لا تحولها إلى دولة مركزية في الخريطة السياسية الجديدة في العالم العربي. وهذا لن يتأتى إلا بامتلاك سياسة خارجية واضحة ستمكن المغرب من اعتماد دبلوماسية استباقية في كل الأحداث، وليس فقط التدخل بعد أن تتخذ هذه الأحداث مسارات يصعب لحاقها. وفي هذا السياق، ينبغي للدبلوماسية المغربية أن تتعامل بمرونة مع بعض المبادئ التي تحكم العلاقات الدولية المعاصرة، مثل مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى الذي يظل مبدأ نسبيا. الدول القوية اليوم وذات النفوذ سواء على المستوى الجهوي أو العالمي هي التي تتدخل أكثر، وليس أقل، في الأحداث الداخلية وتساهم في رسم ملامح الخريطة السياسية للدول لاسيما خلال المراحل الانتقالية؛ فلا مجال للمقعد الشاغر في السياسات الدولية، إن لم تبادر الدولة ذات المصلحة المشروعة لملأ الفراغ يملأه آخرون.

القوة الناعمة

الاستثمار الجيد لعناصر القوة الناعمة التي يتمتع بها المغرب، وقد أشار البرنامج الحكومي ضمنيا إلى هذه الرغبة، سيشكل بالتأكيد دعامة مهمة لتفعيل الدبلوماسية المغربية وإشعاعها.

ويعد الإرث التاريخي للمغرب أهم هذه العناصر، باعتباره من أقدم الدول التي حافظت على استمراريتها عبر العصور مما مكنها من ربط علاقات مع مختلف الشعوب. المغرب ليس دولة وليدة مرحلة ما بعد الاستعمار، بل يضرب بجذوره في أعماق التاريخ، لذلك يفترض أن تكون له سياسة خارجية تليق بعمقه التاريخي وتنوعه الثقافي المتميز.

إن رئاسة شخصية حزبية للجهاز الدبلوماسي المغربي يمثل في حد ذاته تحولا كبيرا في طريقة تدبير هذا الجانب من سياسة الدولة. ورغم تأكيد وزير الشؤون الخارجية الجديد على عنصر الاستمرارية، فإنه يملك رؤية للسياسية الخارجة مختلفة تماما عمَّا دأبت عليه الوزارة خلال العقود الماضية. لذلك يمكن أن نتساءل إلى أي حد يمكن للوزير الجديد أن يجسد رؤيته للسياسية الخارجية للمغرب ويطبعها ببصمته الخاصة، مع احتفاظ المؤسسة الملكية بالكثير من الأدوات الدستورية و"فوق-الدستورية" لتوجيه دفة الدبلوماسية المغربية، إضافة إلى وجود وزير خارجية آخر منتدب يعرف كل خبايا هذه القلعة ودواليب تسييرها، وخيوط ارتباطاتها المتشعبة مع أجهزة أخرى.

مشكلة الصحراء وإبداع الدبلوماسية

لقد دأبت مختلف الحكومات المتعاقبة على جعل مشكل الصحراء قضية مركزية في برامجها، وهذا ما أعادت الحكومة الحالية التأكيد عليه، حيث شددت على أن "الدفاع عن السيادة والوحدة الوطنية والترابية، شمالا وجنوبا، والمصالح العليا والقضايا العادلة للمملكة المغربية وفي مقدمتها النزاع المزمن حول الصحراء المغربية تعتبر أولوية الأولويات للبرنامج الحكومي".

لكن المهم في هذه المرحلة ليس فقط إعادة التأكيد على المسلمات في السياسة الخارجية المغربية لاسيما ما يتعلق بقضية الصحراء، بل البحث عن مقتربات جديدة في العمل الدبلوماسي للتحرر من عبء هذه القضية، وأن لا تبقى قيدا على الدبلوماسية المغربية تعيق حركيتها وتضعف استقلاليتها وتقتل فيها روح المبادرة.

الإبداع الكبير الذي ينبغي أن تقوم به الدبلوماسية المغربية حاليا هو تحويل هذه القضية إلى نقطة قوة وحافز لتوسيع مجال تواصلها، ونافذة للتواصل مع العالم وتعزيز مركز المغرب، وأن لا تظل عبئا ثقيلا على كاهلها. هناك فرق كبير بين دبلوماسية دولة لها قضية كبرى تعطي لصانع السياسة الخارجية وللجهاز الدبلوماسي حافزا قويا للإبداع والابتكار، وبين دبلوماسية بلا قضية.

ويجب في هذا السياق اتخاذ مواقف صارمة لمنع تكرار استعمال قضية الصحراء سواء من الخصوم أو الأصدقاء ورقة لابتزاز المغرب، والأمثلة على هذا الأمر في الماضي والحاضر كثيرة، ولا تحتاج للسرد في هذا المقام.

مفاتيح الدبلوماسية الموازية؟

لم تعد الدبلوماسية، على الأقل خلال العقود الثلاثة الماضية، حكرا على وزارة الشؤون الخارجية ومختلف القطاعات الحكومية، بل أصبحت نشاطا مشاعا يمتد ليشمل مختلف مناحي الحياة الإنسانية، ولم يعد الدبلوماسي هو ذلك الشخص الذي يسافر إلى خارج البلد ويلتقي بأشخاص محددين من خلال برتوكول ومراسيم صارمة، بل يستطيع أي مواطن اليوم ـ مع تقنيات الإعلام والتواصل الجديدة ـ أن يقوم بعمل دبلوماسي من منزله، وقد يساهم في إشعاع بلده أكثر مما قد تقوم به بعثة دبلوماسية رسمية كاملة.

أصبحت الدبلوماسية الموازية اليوم، باتخاذها أبعادا لا حصر لها، أحد الأعمدة التي تستند عليها الدول لجلب المصالح ودرء المفاسد على المستوى العالمي؛ لذلك فنهج دبلوماسية رسمية من خلال الأجهزة التقليدية بدون دبلوماسية موازية، كمن يمشي على قدم واحد.

ورغم أن البرنامج الحكومي الحالي لم يشر إلى الدبلوماسية الموازية، إلا أن المرسوم المنظم لوزارة الخارجية والمحدد لاختصاصاتها (المنشور في الجريدة الرسمية في 06 شتنبر 2011) من شأنه أن يتدارك هذا الفراغ، حيث أنشأ هذا المرسوم مديرية جديدة تهتم بهذا الجانب من الدبلوماسية، وهي "مديرية الدبلوماسية العامة والفاعلين غير الحكوميين" التي أسندت إليها مهام كثيرة من بينها "تقوية التفاعل مع مجموع مكونات المجتمع المدني ومجموعات التفكير". لكن نجاح هذا النوع من الدبلوماسية الموازية يتطلب تأهيلا مستمرا للفاعلين في هذا المجال الذي أصبح أيضا وجهة للتطفل والتطاول.

لابد من إشراك الفاعلين في مجال الدبلوماسية الموازية بشكل سليم وفاعل، وعدم توظيفهم كعنصر كمي أو واجهة؛ وما حدث في جنوب إفريقيا في شهر دجنبر 2010 أثناء انعقاد المهرجان العالمي للشباب والطلبة، وأيضا ما حدث في السنغال في شهر فبراير 2011 بمناسبة تنظيم المنتدى الاجتماعي العالمي، من إنزالات كبيرة كلفت كثيرا ميزانية الدولة دون أن تحقق نتائج تذكر، كما أنها أساءت إلى صورة المغرب أكثر مما عززت من مصداقية مواقفه.

آن الأوان لهجر أسلوب الإقصاء والمحسوبية في هذه المناسبات، وينبغي أن يُشرك الفاعلون المدنيون خلال هذه المنتديات الدولية بناء على الكفاءة والتخصص، وليس بناء على المحسوبية والانتماء الحزبي أو العائلي، لأن قضايا السياسية الخارجية هي قضايا جميع المغاربة سواء أكانوا في صف المعارضة أو الأغلبية.

وليس من نافلة القول التذكير بأن الكفاءات المغربية المهاجرة، لاسيما تلك التي راكمت تجربة مهمة في العمل السياسي في دول الاستقبال أو في دبلوماسية المنظمات الدولية الحكومية وغير الحكومية، هي أحد الركائز الأساسية للدبلوماسية الموازية المغربية.

ويعد الانفتاح على مراكز البحث والتفكير والاستئناس بأفكارها واجتهاداتها أحد الثوابت الأساسية في عملية صياغة السياسة الخارجية في الدول المتقدمة. إن إنشاء خلية للتفكير بجانب وزير الخارجية من الاقتراحات التي يمكن أن تمد جسور التعاون والتكامل بين عالمي التفكير والممارسة الدبلوماسية، خاصة أن "مركز التحاليل والأبحاث المستقبلية" الذي كان منصوصا عليه في الهيكلة السابقة لوزارة الخارجية، رغم أنه لم يرى النور، غَيَّبه الإصلاح الجديد لتنظيم واختصاصات الوزارة في شهر سبتمبر 2011، وكأنه تأكيد على نوع من التوجس بين الآلة الدبلوماسية المغربية ومراكز البحث والتفكير على قلتها. ويستحسن في هذا الإطار توسيع مهام "الأكاديمية المغربية للدراسات الدبلوماسية" لتشمل مهمة البحث والتحليل والنشر، بدل الاقتصار فقط على مهمة التكوين.

خلاصة:

خلاصة القول، إن السياق السياسي الداخلي الذي تشكلت في ظله الحكومة الحالية، إضافة إلى التغيرات التي تشهدها الخريطة السياسية في العالم العربي، يتيحان للمغرب فرصة كبيرة لنهج سياسة خارجية حقيقية تقوم على رؤية شاملة تتميز بالمرونة والتوازن، وليس مجرد علاقات دولية تحوم حول ردود الفعل.

ومن جهة أخرى، إن صياغة سياسة خارجية طموحة ومتوازنة تتطلب إعادة النظر في موقع المغرب ودوره الجهوي والعالمي باعتباره ـ ليس فقط مجرد جسر بين الشرق والغرب وبين الجنوب والشمال ـ، بل دولة محورية في فظاءها الجهوي تستثمر كل العناصر التاريخية والثقافية والجيوسياسية التي يحظى بها.

* أستاذ العلاقات الدولية بجامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس