لا أحد ينسى ما وقع أثناء المظاهرات ضد النظام المصري في أوج الثورة؛ ففي الوقت الذي كان الشباب في ساحة الحرية مرابطين، كان في المقابل من يتفاوضون مع عمر سليمان نائب الرئيس المصري المخلوع. فالجماعات الإسلامية كانت أكثر تنظيما و أكثر تجذرا ، وبالتالي دهاؤها السياسي قد فاق كل المقاييس. فكانت إحدى رجليها مع النظام والرجل الأخرى مع الشارع والثورة. فهي من جهة كانت تراهن على صمود النظام، كما كانت تستشرف نجاح الثورة من جهة أخرى . ففي الحالة الأولى كانت تبحث لها عن موطئ قدم على بساط النظام، والتمهيد للاعتراف بها في حالة وأد الثورة، وفي الحالة الثانية كانت تشرئب إلى الهيمنة على الساحة السياسية في ما بعد الثورة إن كتب لها النجاح. كلنا نتذكر الوجوه التي جلست حول عمر سليمان، وهو في مربع سيميائي له من الدلالات ما له؛ لأن من كان في مفاوضات يجلس حول طاولة مستديرة، أما والأمر عكس ذلك - بحيث تصدر نائب الرئيس المصري الجلسة وكان رئيسها - فيؤكد الاعتراف بشرعية النظام. وفي هذا الاعتراف ما فيه من دوس لقداسة شهداء الحرية والكرامة، و تدنيس لطهر الثورة و دمائها الزكية.

 

إذن لا شك أن مفاوضات عسيرة كانت تتمخض في رحم الدولة ما بين العسكر والإخوان المسلمين و السلفيين. وما نزال نسترجع ذكريات مظاهرات ما بعد سقوط مبارك؛ فما كان امتناع الجماعات الاسلامية عن المشاركة في بعضها، و تقلص أعداد المشاركين فيها إلى حدود عشرات الآلاف، بدلا من الملايين أثناء كل مشاركة لهذه الجماعات إلا إشارة قوية موجهة بالدرجة الأولى للمجلس العسكري، و برهنة له على قوة و تنظيم الجماعة، وتجذرها داخل الفئات الشعبية . و كان هذا كله بمثابة رسائل لا تقبل التسويف، أو التهوين، أو عدم رد الاعتبار لهذا التنظيم في ما هو آت من القرارات، و يشي أيضا بوجود تفهمات أو اتفاقيات بين العسكر والجماعات الإسلامية لتقاسم السلطة. و ما دامت القوة الشعبية بجانب هذه الجماعات، فإن المجلس العسكري قد رضخ لإملاءاتها، و قبل بانتخابات نزيهة شريطة ألا يقدم الإخوان مرشحا للرئاسيات.

 

و لكن الرياح لا تأتي دائما بما تشتهي السفن، لأنه بعد كل محطة تظهر اختلافات لم تكن تطفو على الساحة السياسية في غياب العلل. ومع انتخاب المجلس التشريعي، و تشكيل المجلس التأسيسي لوضع دستور جديد، ظهرت بوادر الاختلاف والخلاف. ذلك أن التوجه الذي أضحى سائدا لدى المجلس العسكري هو أعطاء سلطات واسعة للرئيس في الدستور المزمع تأسيسه. و ما دام أن الوضع يعسر التحكم فيه في هذا الوضع المتأزم، فإن الإخوان المسلمين رأوا ضرورة أخذ الحيطة والحذر، والعمل على مسابقة الزمن للحيلولة دون الرجوع إلى نفس النظام السابق، وإن لم يستطيعوا إيقاف المد العسكري و نفوذه فإنهم يكونون على الأقل في المضمار للمنافسة على منصب الرئيس، ولذلك قرروا تقديم مرشحهم لمنصب رئيس الجمهورية .

 

تلك إذن نظرة مختصرة إلى الأحداث الماضية لتجعلنا في ضوء ما يجري حاليا. وانطلاقا مما سبق، لا يستطيع أي قطب متبصر أن يأخذ بيديه جميع السلط. فلا المجلس العسكري يحبذ التسيير الشمولي للدولة، ولا الجماعات الإسلامية لها المصلحة في ذلك. إن المعادلة صعبة، وأي محاولة للوصول إلى نتيجتها من دون المرور بالمراحل الضرورية، سيكلف كلا الجانبين أعباء ثقيلة على جميع المستويات، سواء البشرية، أم السياسية، أم الاجتماعية، أم العسكرية، أم العمرانية. فمن جهة يتخوف المجلس العسكري من المحاكمات التي قد تطالهم إن تفردت الجماعات الاسلامية بالحكم، وفي المقابل يتوجس الإخوان المسلمون من رجوع العسكر إلى النظام القديم، فيكون مصير الثوار هو المحاكمات الصورية والإعدامات. فحالة الترقب هي الغالبة على كلا الجانبين. وكلما اقترب موعد الحسم في الجولة الأخيرة إلا وحمي الوطيس، وتداعت له باقي المؤسسات بالعدوى؛ فمن إصدار المجلس العسكري لبعض القوانين التي يرى فيها بعض الحقوقيين إعادة حالة الطوارئ بطريقة جديدة، إلى إصدار المحكمة الدستورية العليا حكما بعدم دستورية بعض مواد قانون مجلس الشعب، و هو ما قد يترتب عنه حل مجلسي الشعب و الشورى ثم الجمعية التأسيسية لوضع الدستور. والدفة الأخرى ليست مكتوفة الأيدي بل هي بدورها تقوم يتسخينات عبر مليونيات في ساحات المدن الكبرى.

 

نحن الآن أمام وضع قابل للانفجار في أي لحظة إذا لم يحكم عقلاء القطبين ضمائرهم، ويصلون إلى حل وسط لا غالب فيه ولا مغلوب. و يغلبون مصلحة الوطن العليا على كل المصالح مهما علا شأنها. والساعات المقبلة قابلة لكل الاحتمالات، لأنه إذا افترضنا جدلا أن يقوم المجلس العسكري بحل البرلمان، فذلك سيؤدي بالضرورة إلى فراغ دستوري ومؤسساتي سيجد معه الرئيس المقبل نفسه أمام وضعية شاذة في غياب البرلمان الذي سيؤدي أمامه اليمين الدستورية، كما أن هذا الرئيس سيجد نفسه بدون سلطات دستورية محددة في غياب دستور للبلاد يحدد صلاحياته.

 

خلاصة القول: إن الأيام المقبلة، والساعات القادمة، ستكون حبلى بالمفاجآت، إذ قد يتأثر القائمون على الشأن العام في مصر بالوضع في سوريا الذي طال أمده ولم يحقق أهدافه بعد، أو باليمن التي قبلت بحفظ ماء وجه الطرفين. و قد يتهور الجيش في أي لحظة فينقلب على الثورة بذريعة من الذرائع التي قد يجد لها ما يبررها، و يحكم قبضته على السلطة، و يعيد حالة الطوارئ، وتعود الأمور إلى سالف عهدها. كما قد تقوم الجماعات الإسلامية – في حال الانقلاب- بتهور فتعلن العصيان المدني فتدخل الدولة في ما لا يحمد عقباه. و في كلتا الحالتين يكون الخاسر الأكبر هو الوطن.