إن كان لكل عمل أخلاقه تتعلق به وتخصه فإن ارتباط الأخلاق بالطب يعتبر ارتباطاً عضوياً يتجاوز بكثير ارتباطها بالمهن الأخرى. منزلة الأخلاق من الطب كمنزلة الرأس من الجسد. فمما يلامس الآذان عبر الزمان والمكان ويترك في الشعور أثراً حياً: القَـسَمُ الطبي لأبقراط، الذي كتب له البقاء مع تقادم العهود لا يزال ساري المفعول إلى اليوم (سنورده فيما بعد). مع العلم أن من العُـلوم التي نبغ فيها المسلمون القدماء على الخصوص تطوير الطب وأخلاقه. فلم يكن المسلمون مجردَ نـقَـلة بل كانوا يؤصلون ما أمكن التأصيل، ويستدركون على كل علم قاموا بنقله إلى العربية بعد قراءة نقدية يقظة. أرخ ابن أبي أصيبعة لأخلاق الطب ما اشترطه المسلمون في الطبيب: "أن يكون تام الخلق، جيد الرؤية حسن الملبس، طيب الرائحة، نظيف البدن والثياب، كتوماً لأسرار المرضى، لا يبوح بشيء من أسرارهم، وأن تكون رغبته في علاج الفقراء أكثر من رغبته في علاج الأغـنـيـاء. سليم القلب عفيف النظر، صادق اللهجة، لا يخطر بباله شيء من أمور النساء، والأحوال التي شاهدها في منازل الأغـنـيـاء، فضلا على أن يتعرض إلى شىء منها " لقد عرَف المسلمون ميثاق أبقراط وأصلوا مضامينه استصحاباً للأصل الذي هو مصلحة الإنسان المـتـفـقـة والقاعدة الأصولية التي يتمحور عليها الشرع "درء المفاسد وجلب المصالح" فالإسلام دين يستوعب كل ما يخدم الإنسان ولا يدمره ويحفظ كرامته بحفظ الدين والعقل والنفس والنسل والمال. تعاطِي المسلمين مع مهنة الطب كان حافزُها المقصد الغائي للشريعة الذي يرتكز على إسعاد الإنسان في الدارين. يقول الشاطبي: "استقرينا من الشريعة أنها وضعت لمصالح العباد استقراء لا ينازع فيه أحد". (الموافقات للإمام الشاطبي، تحقيق عبد الله دراز، ج 2 ص 4)

 

قسَم أبقراط أبو الطب

 

أقسم بالطبيب أبولو وأسـكـلـيـبـيـوس وهـيـجيا وبانكيا وجميع الأرباب والربات وأشهدهم، بأني سوف أنفذ قدر قدرتي واجتهادي هذا القسم وهذا العهد. وأن أجـعل ذلك الذي علمني هذا الفن في منزلة أبويّ، وأن أعيش حياتي مشاركاً إياه، وإذا صار في حاجة إلى المال أن أعطيه نصيباً من مالي، وأن أنظر بعين الاعتبار إلى ذريته تماماً كنظرتي إلى إخواني وأن أعلمهم هذا الفن - إذا رغبوا في تعلمه- دون مقابل، وأتعهد أن أعطي نصيباً من التعاليم الأخلاقية والتعليمات الشفهية وجميع أساليب التعليم الأخرى لأبنائي ولأبناء الذي علَمني وللتلاميذ الذين قبلوا بالعهد وأخذوا على أنفسهم القسم طبقًا لقانون الطب، وليس لأي أحد آخر. ولن أعطي عقاراً مميتاً لأي إنسان إذا سألني إياه، ولن أعطي اقـتراحاً بهذا الشأن. وكذلك لن أعطي لامرأة دواءً مجهضاً. وسوف أحافظ على حياتي وفـني بطهارتي وتقواي. ولن أستخدم الموسى حتى مع الذين يعانون من الحصوات داخل أجسامهم. وسوف أتراجع لمصلحة الرجال المشتغلين بهذا العمل. وأيّاً كانت البيوت التي قد أزورها، فإنني سأدخل لنفع المريض، على أن أظل بعيداً عن جميع أعمال الظلم المتعمَّد، وجميع الإساءات وبخاصة العلاقات الجنسية سواء مع الإناث أو مع الذكور أحراراً كانوا أو عبيداً. وسوف أظل حريصاً على منع نفسي عن الكلام في الأمور المخجلة، التي قد أراها أو أسمعها أثناء فترة المعالجة وحتى بعيداً عن المعالجة فيما يتعلق بحياة الناس، والتي لا يجوز لأحد أن ينشرها. فإذا ما وفيت بهذا الـقَـسَم ولم أحِدْ عنه، يحق لي حينئذ أن أهنأ بالحياة وبالفن الذي شَرُفت بالاشتهار به بين جميع الناس في جميع الأوقات. وإذا ما خالفت القسَم وأقسمت كاذباً، فيجب أن يكون عكس هذا نصيبي و جزائي بصرف النظر عن القَـسَم بالآلهه المتعددة الواردة في الميثاق - التي لا تناسبنا- فأن هذا القـسَـم لا يزال مرجعية الأخلاق الطبية في العالم، ومنه تفرعت البنود القانونية التي تحمي خصوصية المريض وكرامته وحريته الشخصية. حتى وإن أدخلت على القسم تعديلات عبرالتاريخ بالزيادة والحذف وألإضافة فإنه لايزال يحتفظ بمضمونه الحيوي المتجدد الذي يؤدي مهمة القسم الطبي بامتياز حيث يُـشعِـر مؤديه بجلالة مهمته وقدسية رسالته.

 

لماذا ارتبط علم الأخلاق بالطب؟

 

لم ترتبط الأخلاق بالطب لكون التطبيب والتمريض من أقرب الأعمال إلى الإنسان لتعلق المهنة وقربها به من حيث آلامُه وأحاسيسُه فحسب. صحيح أن الطبيب مؤتمَـن على حياة المريض وصحته وأسراره الشخصية وأمواله، هذا من جهة لكن من جهة أخرى ارتبط علم الأخلاق بالطب لأن الأخلاق بذاتها عدت عند الأطباء القدماء العرب باباً من أبواب التطبيب (النفسي) فتهذيب الأخلاق على حد تعبير الكندي يرمز إلى ترقية النفس وتحريرها من أمراضها والعودة بها إلى أصلها السماوي الرفيع. أما عند رائد آخر من رواد طب الأخلاق ثابت ابن سنان فإن "أصول الأخلاق تقع في مزاج الأعضاء: أي الدماغ والقلب والكبد. فحفظ الأخلاق يكون باستدامة صحة تلك الأعضاء. وهذا داخل جميعه في صناعة الطب" (العقل الأخلاقي العربي للجابري ص 311) مما جعل أبو حامد الغزالي في الإحياء يجعل الفضيلة أساساً للأخلاق وهي الوسط بين قوى النفس الثلاث، تبعاً لأرسطو الذي يرى الفضيلة هي التوازن بين قوى النفس: الناطقة والغضبية والشهوانية.

كما يثبت الجابري نزعة جالينيوس الطبية الأخلاقية عند الكندي الذي انتقل عبره إلى أخلاق أفلاطون مروراً إلى أبقراط الذي أخذ عنه أفلاطون. وفي كل الأحوال فالـكـنـدي ينتسب إلى أفلاطون في اعتباره قوى النفس أسساً للقـيم الأخلاقية. فعبر إدراك ماهية النفس وقواها الثلاث نخلص إلى تنمية الأخلاق حسب الكندي. لم يحسم الجابري إن كان الكندي قد تبنى آراء أفلاطون في مسألة النفس القائل بجوهريتها. أما ابن مسكويه فيرى أن صناعة الطب من أشرف الصناعات حيث يقول في تهذيب الأخلاق: " وأما سائر الصناعات الأخَـر فمراتبها من الشرف بحسب مراتب جوهر الشيء الذي تستصلحه وهذا ظاهر جدّاً من تصفح الصناعات،لأن فيها الدباغة التي تُعنَي باستصلاح جلود البهائم الميتة، وفيها صناعة الطب والعلاج التي تهتم باستصلاح الجواهر الشريفة الكريمة، وهكذا الهمم المتفاوتة التي ينصرف بعضها إلى العلوم الدنيئة وبعضها إلى العلوم الشريفة " (تهذيب الأخلاق لابن مسكويه ص 18)

 

فالأخلاق الطبية عند المدرسة الأفلاطونية التي ينتسب إليها كل من الكندي والرازي وابن سينا ترى الإنسان جوهراً مَـركَـزِيَّ الوجود. فالنفس الإنسانية عندهم خالدة أزلية. من هنا اعـتبر الطب المتعلق بهذا الإنسان رسالة ذات قدسية متعالية اكتسبت ذلك التعالي بارتباطها بالإنسان صاحب النفس الأزلية المتعالية. فتعريف الإنسان في الأخلاق الفلسفية هو الذي يضعه في مركزيته الكونية ويجعله يقرر مصيره لأنه يملك العقل أو لأنه يفكر. هذه الفلسفة تلغي كل ما عدا الإنسان بحيث تجعله هو الذات والجوهر وما عداه موضوع له. فالذي خول الإنسان هذه المركزية إنما هو العقل الذي امتاز به. فالإنسان هو معيار الوجود - فما دام ديكارت يفكر فهو الموجود بصيغة الحصر (كوجيتو) من خلال هذه الفلسفة يرى الإنسان إخضاع الطبيعة له. وبالتالي فالأخلاق تبحث في إسعاد الإنسان وتسهرُ على تنشئته وتمريضه وخدمته وهو هرم أو في حالة احتضار، أوجسداً هامداً. وليس ذلك الإنسان الذي هو موضوع لغيره وليس ذاتــاً، مـسـتعـبـد، طائع، منتظِر، خاضع، فـاقد للإرادة الحرة، عاجزعن اتخاذ القرار وحسن الإختيار. الأخلاق الطبية تحددها نوعية نظرة الطبيب والممرض إلى الإنسان الذي أتاه ليعالجه ووقع بين يديه. ماهية هذا الإنسان في قناعة الطبيب والممرض هي التي تحدد أخلاق الطب. فسؤال من هو الإنسان؟ هو أحد الأسئلة الأربعة التي أسس لها الفيلسوف الألماني إيمانويل كانت وجعلها قطب الرحى. لهذا قيمة الإنسان، حريته، كرامته، حياته، هي التي نضعها فوق كل اعتبار ونحن نتعامل مع الكائن الإنساني في التمريض والعلاج.

 

هل نعاني من الفراغ الأخلاقي؟

 

يري بعض المفكرين أن المكتبة العربية تعرف أزمة ملحوظة في مجال علم الأخلاق إذ لا تتوفر على القدر الذي يفي بالغرض في هذا المجال، اللهم إلا ما يعد على رؤوس الأصابع من المؤلفات التي يمكن حصرها في أسطر. بينما يستميت البعض الآخر في إثبات عكس هذه الرؤية التي هي أقرب إلى الواقع في نظرنا. أرجو أن أكون مخطــأ في حق التراث الذي أنتمي إليه. فلا يتجلى لك هذا الفراغ في المكتبة العربية إلا إذا تابعت ما يُــنـشر باستمرار في المكتبة الغربية على مستوى الشهر والسنة من مجلات وكتب، وما ينظم من ندوات في علم الأخلاق على العموم والأخلاق الطبية على الخصوص. بينما يرى الدكتور طه عبد الرحمن هذه المشكلة - فراغ المكتبة العربية - من زاوية أخرى. فهو يرى أن الأخلاق " مبثوثة في العلوم الإسلامية من علم الفقه وأصوله وعلم الكلام وعلم التصوف الذي اقترن اسمه بعلم الأخلاق حتى أطلق عليهما اسم واحد وهو علم السلوك ". فالسلوك أخلاق عملية وليست نظرية. فطه عبد الرحمن يرى التداخل بين العلوم لهذا لم يحتج المسلمون أن يجعلوا مادة علم الأخلاق مستقلة بذاتها كما عند الغرب لأن كل حكم شرعي ينطوي على حكم أخلاقي كأسمى مقصد فيه. لكن يعترض في الوذقت نفسه على الشاطبي لتصنيفه علم الأخلاق في باب التحسينيات ولم يدرجه تحت الضروريات (تجديد المنهج في تقويم التراث طه عبد الرحمن ص 111). بينما يرى الجابري أن الأخلاق في التراث العربي لم تنل حظها من البحث علاوة على كونها امتزجت بالموروثات الدخيلة على الأخلاق العربية: الموروث الفارسي، الموروث اليوناني، الموروث الصوفي، الموروث العربي. أما الموروث الإسلامي الخالص فلم ينل حظه من البحث إلا عند القليل.

 

الذي أريد قوله: إلى متي تظل هذه المادة العلمية الثرية والدسمة فاقدة لهويتها غير مستقلة بذاتها في الدراسات العليا؟,, كما استقل علم الأصول والمنطق والنحو والصرف وعلوم مصطلح الحديث ثم باقي العلوم الإنسانية. أطال الله عمر الفيلسوف الدكتور طه عبد الرحمن حتى يفصل المقال فيما بين الطب والأخلاق في بلادنا من الإتصال. هل نعد مسألة التداخل بين العلوم الإسلامية مبرراً لانفصال الأخلاق عن الطب في بلادنا بهذا الشكل؟ إذا اكتفينا بترك الأخلاق للفقه كما هو واقع الحال نكون قد جردنا الطب من الأخلاق لـيـبـحث عنها في علم آخر عندما يحتاج إليها. أو نحتاج إلى الأخلاق الطبية إلا عندما يتعلق الأمر بالقتل الرحيم، والإجهاظ، والموت الإكلينيكي المحقق أو غير المحقق، ومتى يعتبر التوقف عن العلاج قتلاً؟ وحكم استعمال المُورفين، وزرع الأعضاء. هذه أمور تحسمها الفتوى عندنا نحن المسلمين. لكن المشكلة هنا تتجلى في وجود الهوة بين المشتغل بالفتوى في مستجدات الطب والطاقم الطبي في أغلب الأحيان في بلادنا. فإصدار الفتوى في معضلة طبية يفترض أن يتم عن قرب، فالفقيه يتعين إذن أن يعاين المسألة معاينة دقيقة ويستوعبها استيعاباً متكاملاً لينزل عليها الحكم الشرعي المناسب لها. ولا يحصل ذلك الإستيعاب المتكامل إلا بلقاءات ومشاورات منتظمة بين الفقية والطبيب وهذا التعاون المشترك لا يزال بعيداً. بمعنى نحتاج إلى التخصص الأخلاقي المستقل الذي نعدمه في بلادنا اختصاصاً يجمع بين الأخلاق وفلسفتها وتعميق البحث في مواكبة الدين للطب وما استجد من تطوير في ميدان هذا التخصص الذي نراه غائباً عن الأدبيات المطروحة في اتجاه الإصلاح كما غاب عن السياسة الصحية.

أزعم أن الأزمة المتجددة في هذا الحقل بدأت مبكراً بالهجوم على الفلسفة والفلاسفة. فمنذ ذلك الحين لم يُـكتب للأخلاق الفلسفية أن تنال حظها من البحث في حرية واستقرار، وبالتالي أدت تلك المعادات إلى تجريد الطب من الحكمة مما جعله يفقد نكهته التي تحفز الطبيب أو الممرض على أن يمارس مهنته سلطاناً على رسالة تعتبر من أشرف الرسالات على الإرض لارتباطها بالإنسان. نكاد نجزم مرة أخرى أن تراجع البحث في الأخلاق الفلسفية ارتبط بعصر انحطاط الفلسفة بحضر دراستها في الأندلس وإحراق كتبها. بعد هذا التقديم نود أن نخلص إلى الموضوع المطروح في هذا المقال:

 

واقع الأخلاق الطبية في القطاع العام في بلادنا

 

ما هو موقع الأخلاق الطبية من المستشفى العام المغربي؟ وما محل الأخلاق الطبية من مؤسسة الإستشفاء في بلادنا؟ فالذي نقرؤه حول المستشفيات الوطنية الكبرى من أخبار تبعث على الأسى لا بد أن يكون أقل بكثير مما يحدث في القرى النائية والمدن الصغيرة البعيدة عن الأضواء ومراقبة الدولة. تــبـدو لك وأنت تقرؤ هذ الواقع أو تشاهد المواطن يعبر عن تجربته مع القطاع الهوة الساحقة بين التطبيب والتمريض في بلادنا من جهة وبين المنظومة الطبية الأخلاقية المتعارف عليها من جهة أخرى التي نبغ فيها أجدادنا العرب المسلمون وأسهموا فيها وثبت حضورهم القوي بشهادة القريب والبعيد.

 

بثت القناة الأولى الخامس من يونيو الجاري ضمن برنامج قضايا وأراء: واقع الصحة في بلادنا. أسفرهذا البرنامج بتدخلات المواطنين التي تعكس التجربة اليومية على سيل عرم من الأزمات التي يرزخ تحتها القطاع، منها: الزبونية، الرشوة، التهميش، عزلة المواطن، معاناة المناطق النائية، تأخر الإغاثة لدى حوادث السير، فراغ المصحات من الممرضين التي أغلقت في النهاية بعد خلوها من المهنيين، الأثمة الباهضة للأدوية، إهمال القطاع العام مما يدفع لتشجيع القطاع الخاص، مشكلة الموارد البشرية، الأجهزة المتقادمة، بل انعدامها أصلا، الفوضى والتسيب وحيرة المواطن، الأوساخ، أزمة التدبير الجهوي، ومشكلة تدبير وتوزيع المهنيين بما فيهم المتخصصين الذين تمركزوا في المدن الكبرى. الإشتغال في القطاعين العام والخاص في آن واحد، رفض بطاقة التغطية الصحية، بما في ذلك الرميد الذي أنشأ حديثاً. كل هذا وميزانية الصحة لا تتجاوز 5% من الميزانية المخصصة لها، ثم مشكلة الهوة القائمة بين الممرض والمريض التي تتسع يوماً بعد يوم، واليأس وعدم الثقة بين المركز الصحي والمواطن إذ العلاقة بينهما يحددها الربح وليس البعد الإنساني والأخلاقي. كما تناول المتدخلون العنف الذي يتعرض له المهنيون باستمرار وترتفع حدته، لأن المهني هو الذي يجسد الفشل في عين المواطن الذي لحق المنظومة الصحية وبالتالي هو الذي يؤدي الضريبة بالعنف الجسدي الذي يمارس عليه. ودعوة المواطن أن يتفهم الواقع بأن يساهم بانخراطه في التغطية الصحية.

 

كل ما ورد أو يرد في الحوار الوطني حول هذا القطاع البنيوي للمؤسسة الطبية له أهميته في معالجة النقص والإختلال اللذين لحقا بالقطاع. لكن الفراغ الأخلاقي الذي نتحدث عنه سيظل قائماً لا تملؤه لا التغطية الصحية ولا دخول أو خروج المهنيين بالبطاقة الإلكترونية. لأن الأزمة الأخلاقية لا تحلها الأجهزة ولا رفع ميزانية الصحة مع الضرورة القصوى لهذه الإصلاحات تحت سقف محدد من الزمن الذي يتعين فيه ذلك الإصلاح.

 

النسبة بين قانون الطب وأخلاقه

 

قلنا سابقاً إن علاقة الطب بالأخلاق لا تقبل الإنفصال كما قد تقبله في مهنة أخرى. فالذي ينبغي استيعابه أن مسألة الأخلاق الطبية لا يتمكن القانون من ضبطها لأنها أعم وأعمق من القانون. فهي تُــلهمه وتهيمن عليه. فالقانون أحوج ما يكون إلى الأخلاق من حاجة الأخلاق إلى القانون. نعم، هناك المسؤولية القانونية المتداخلة مع الأخلاق الطبية التي تحكم الطب وتحاسب الطبيب والممرض، لكن تظل المساحة ألأخلاقية أوسع من أن يحيط بها القانون أو يشملها فضلا عن أن يرصدها أو يضبط مسارها. فمسؤولية الأخلاق لا تنبعث من سلطة القانون بقدر ما هي نابعة من اختيار الإنسان لعمل أحبه، ولم يرغم عليه، فهو يؤديه بحيوية وببدع فيه لأنه اختاره ولم يفرض عليه. لهذا، لا يقول قائل إن إصلاح قطاع الإستشفاء يبدؤ من مراقبة الممرضين والأطباء المراقبة الصارمة. فليس العقاب ولا التغريم ولا غيرهما من أنواع العقوبات بكفيل أن يحل المشكلة التي يتخبط فيها القطاع الصحي. إن المشكلة أعمق من تنصيب الشرطة الأخلاقية. فالأمر يتعلق ببناء الإنسان من الداخل. نريد أن نفهم المشكلة بعمق دون أحكام مسبقة على أشخاص معـيـنـيـن أو مؤسسة بعينها. نريد أن نتعرف بصدق عن المشكلة التي يعاني منها الممرض قبل المريض؟ والطبيب قبل المريض؟ والتي تعاني منها مؤسسة الإستشفاء كمؤسسة؟ ما هو موقف الطبيب والممرض في بلادنا من الأخلاق الطبية المتعارف عليها؟ هل نختزل الأزمة في نقص الموارد البشرية حيث يقوم الممرض الواحد أو الممرضة بمهمة ثمانية أشخاص كما أفاد برنامج قضايا وآراء حول واقع الصحة؟ لكن بالمقابل بم نفسر اشتغال الأطباء والممرضين في القطاعين الخاص والعام في آن واحد وزمن واحد؟ هل هو خصاص أم أزمة أخلاق في مؤسسة الأخلاق؟