طلعتيلي فراسي يا ساحة المسيرة الخضراء..! واش كاين غير المسيرة الخضراء فتاريخ المغرب... أين معركة أنوال، وأين معركة الهري، وأين شهداء المقاومة وجيش التحرير، وأين الجندي المجهول، أين طارق بن زياد، أين ابن بطوطة، وأين علماء الوطن، وأين المناضلون الممانعون، وأين الأدباء المغاربة والتشكيليون العالميون...

الساحات العمومية هي قلب المدينة؛ حيث تشكل جزءا هاما من تاريخ هذا الوطن، وجزءا من الذاكرة الجمعية ومن هوية المدينة وتاريخها وكينونتها. وهي ملتقى بشري وحيوي بالغ الأهمية، فحين تريد أن تخبر صديقا لك بمكان تواجدك فلا تجد أفضل من ساحات المدينة الشهيرة والعريقة والموجودة في قلب المدينة...

ساحات وطنية شهيرة؛ ساحة جامع الفنا بمراكش، ساحة السراغنة بالدار البيضاء، ساحة الهديم بمكناس، ساحة باب سيدي عبد الوهاب بوجدة... حيث التاريخ والثرات الشفهي والمقاومة ودماء الشهداء ترسم معالم وطن يتحرك...

وبينما الساحات بالعالم المتحضر والدول المتقدمة هي متنفس ومفخرة وعنوان تحضر وتقدم ورقي، وفضاءات تسودها أجواء اجتماعية وثقافية راقية؛ موسيقيين وسياح ومواطنين يتنزهون، ومجال أخضر ونافورة وحمام يؤثث الفضاء... كما على سبيل المثال في الساحات العمومية بإيطاليا حيث ترتسم الحضارة الرومانية منتصبة أمام أعين الملايين من السائحين، ويقف الإيطاليون متباهين مفتخرين بأصولهم وحضارتهم، ويعبرون عن ذلك بطريقة اجتماعهم وتحركم وجلوسهم وتعايشهم وتواصلهم مع الحمائم والنافورات والمجسمات و...

في المقابل تعاني ساحاتنا الموقرة الفقر المذقع على كل المستويات، وهي بذلك تعكس صورتنا بدون ماكياج أو زيف أو رتوش. ساحات تعكس وتفضح الواقع عاريا وواضحا للعيان. ساحات عمومية مغربية، وهي مغربية من خلال أشكالها البائسة والتافهة والمفرغة من أي عمق حضاري، ساحات شبه فارغة تسودها ثقافة التبليط والفراغ، حيث تغييب الروح الإبداعية جملة وتفصيلا.

أما عن الأثاث المغربي الفاخر، واللمسة المغربية الأصيلة التي  تؤثت فضاء الساحات العمومية، فهي عبارة عن خليط عجائبي وغرائبي من الأشياء والأشلاء تذكرك بالأزمنة الغابرة؛ حيث تجد ساحات عمومية عبارة عن مرتع للأزبال، وحدائق "منتوفة" جرداء، ونافورات أصابها التلف، وساعات كبيرة معطلة، و"فراشات" للباعة المتنقلين، و"كراريس الزريعة والكاو كاو"، متشردون، و"موالين سيكوك"، و"الكرابة"، وحمقى ومتسولون، إلى جانب "مول البابوش"... هذه هي السلعة التي تؤثت فضاءاتنا العمومية، وهذه هي الصورة المغربية الأصيلة التي نسوقها للعالم، في جوقة وسيبة وفوضى ووساخة وأزبال تعبر أيضا كما في الساحات الأوربية عنا وعن مستوى تحضرنا ووعينا.

هي ساحات عمومية تضطر السلطات المحلية في شبه حرب يومية أحيانا تطهيرها من الباعة المتجولين، والقيام بإفراغها من أصحاب الفراشات وموالين صيكوك والبابوش حتى لا تتحول إلى أسواق عشوائية، وترك الحبل على الغارب أحايين كثيرة.

صراع آخر تعرفه الساحات العمومية من نوع آخر، إنه التسمية المتراوحة بين المخزنة والهوية. حيث الهاجس السياسي هو المتحكم، وحيث الأساس والمعيار الموحد الذي يوقع في الابتذال، هو محابات الداخلية والسلطة و"الجهات العليا"!... شارع محمد الخامس  والحسن الثاني وولي العهد في كل المدن المغربية تقريبا دون استثناء! ما معنى هذا..؟

الأمر الذي يسقط الوطن في أسماء ورموز وأماكن بأسماء مبتذلة سياسوية ومكرورة. بيد أن الأمر ينبغي أن يكون إما ساحات بأسماء ومعان ومضامين وطنية عميقة وإما أن تكون ساحات بلهاء تافهة مفرغة من أي حمولة أو هوية. وهو الذي يحصل في الأغلب الأعم. ذلك أنه لا يمكن فصل تسمية الساحات العمومية عن تاريخ المغرب وذاكرته. في هذا الإطار نثمن المحاولة الحداثية لـ"طارق يحيى" الذي أدرج مقترح "تسمية ساحة عمومية بالناظور" باسم " 20 فبراير" في جدول أعمال إحدى دورات المجلس البلدي للناظور في دورته العادية لشهر فبراير، من أجل المصادقة على إطلاق إسم "ساحة 20 فبراير" على إحدى الساحات العمومية المتواجدة بالمدينة، تيمنا بحركة 20 فبراير، وعرفانا بجميلها ودورها في تحقيق الإنجازات التي عرفها المغرب، وأضاف يحيى أن إقدامه على هذه الخطوة جاء"من أجل تكريم تجربة أثبتت وجودها، ودخلت التاريخ بفضل تمكنها من تحقيق إنجازات، عجزت عن تحقيقها الأحزاب منذ فجر الاستقلال".

على أمر التسمية أن ينتقل من مجرد إجراء رسمي روتيني إلى فعل قصدي وواع، كما وأمر تسمية الساحات العمومية لا ينبغي أن يكون مجرد فعل تقني إداري بل محط تفكير وتخمين جماعي بالإسم الذي تستحقه الساحة داخل محيطها العمراني والثقافي والاجتماعي والتاريخي والحضاري والحضري...

إن العشوائية في تسمية الساحات الرئيسية غير مبررة. فالساحات تحمل إرثنا وتاريخنا وصورتنا ووجهنا للعالم، إذ على المغاربة أجمعين مسؤولين ومواطنين الوعي بهذه المسألة وإعطاءها أكبر اهتمام وعناية، إنها بطاقاتنا البريدية الحية إلى العالم. وعلى هذا الأساس فتسمية الفضاءات العامة هو فعل جماعي ومسؤولية تاريخية على عاتق المسؤولين وليست أبدا مزاجا شخصيا لوال أو عامل أو رئيس جماعة، إنها مسألة وطن وتاريخ وحقوق جماعية للشعب المغربي...

هذا التجاذب و الصراع على التسميات والأمكنة يجد وسيجد مستقبلا مبرراته خصوصا بعد هبة الربيع العربي للتنازع الاستراتيجي على السيطرة المعنوية والمادية والرمزية على الساحات العمومية بالعالم العربي. وفي نفس السياق نقول أنه لم يكن اعتباطايا في هذا الباب أن يعلن الشباب في إحدى مسيرات 20 فبراير بالرباط عن تغيير اسم "ساحة البريد" المتواجدة بشارع محمد الخامس بالرباط، والتي  تعتبر الموقع المفضل للوقفات الاحتجاجية، حيث أطلقوا عليها اسم " ساحة الكرامة". حيث نجد "مصطفى مشتري" أحد أعضاء حركة 20 فبراير في كلمة لدى وصول المسيرة إلى ساحة البريد " لقد اخترنا لمسيراتنا شعار – موعد مع الكرامة – ولأننا اليوم نرفع شعار الكرامة ونطالب بالكرامة، ولأنه في هذه الساحة تتجسد أسمى معاني الكرامة، ولأنه يوم الكرامة نعلن أنه ابتداء من اليوم أن هذه الساحة هي ساحة الكرامة ". وقد استقبل المتظاهرون هذا الإعلان بالتصفيق والشعارات المطالبة بالكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية"...

إن الساحات وأسمائها ليست مجرد أسماء وساحات وفقط، بل هي تاريخ ودلالات ورموز و"ريبيرتوار" جماعي لتاريخ الأمة. ولذلك، وعلى مستوى الهوية البصرية والإبداعية والجمالية والثقافية، على الساحات العمومية المغربية أن تكف عن الاقتباس من الهوية الغربية أو من تماثيل ونماذج تعبر عن حضارة ليست لنا ولا تعبر عنا وعن هويتها، وهذا خطير ودليل على استلابنا وضحالتنا الفكرية. وإلا، فلنكن "فوطوكوبي" للدول والشعوب الأخرى..! حتى إن جاء سائح أجنبي ضحك من تبعيتنا واستنساخنا لإبداعه، بل على الأمة المغربية أن تبدع أشكالها الحضارية، فالإبداع عمل خاص وذاتي، يعبر عن شيء ما أو عن أناس ما أو مكان ما عن تاريخ أمة وعن ذهنيتهم، عن روحهم، عن مجدهم. كما أن الإبداع ليس مسألة اعتباطية، إذ ما العظمة والجدة في أن نملأ ساحاتنا بنسخ مما هو موجود بإيطاليا وإسبانيا..! فعلى المستوى السياحي، نريد للسائح الغربي لما يقدم إلى المغرب أو إلى أي مدينة مغربية أن يرى إبداعنا الخاص وثقافتنا وبصمتنا لا أن يضحك من نسخنا الرديئة لحضارته وتاريخه وفنه.

سنظل نحلم إذن بساحات هي بمثابة فضاءات للقاء، للراحة، للاستجمام، للتعبير عنا وعن تاريخنا التليد، عن رقينا، وعن حميمية الشعب المغربي وتسامحه وكرمه وضيافته، عن مدى وعيه وتحضره.

سنظل نحلم بتغيير المشهد النمطي للساحات العمومية، والتوطئة لذلك من خلال مبادرات وحملات ثقافية وإعلامية هادفة تساهم في تغيير المشهد البدائي والصورة المبتذلة لساحاتنا العمومية.

سنظل نحلم بساحات عمومية تتحول إلى شبه "كارت بوسطالات" تخاطب العقل والروح والقلب، وتعكس هويتنا وتاريخنا وحضارتنا.

سنظل نحلم بساحات عمومية نتفاعل معها بمواطنة ترسخ قيمنا الأخلاقية والثقافية وتعمق هويتنا ووطنيتنا.

سنظل نحلم بفضاءات واسعة مزودة بكل وسائل الراحة والسلامة ومتنفسا حقيقيا للمواطنين.

سنظل نحلم بساحات عمومية مزودة بالكراسي، والإنارة العمومية، والتطهير اللازم، والطرق النظيفة، والسقي المتواصل، والرعاية الكاملة، وبهندسة مغربية رائقة وأصيلة.

وسنظل نحلم بساحات عمومية في كل مدن المملكة، تكون بمثابة عناوين بارزة للإنسان المغربي بالداخل وللزائر الأجنبي من الخارج.

وما بين الحلم والواقع يكمن وطن مغربي ينتظر، وساحات مغربية من الطراز الأصيل في المستقبل القريب...