شكَّل الخطاب الملكي بمناسبة الذكرى السابعة والستين لذكرى ثورة الملك والشعب ليوم الخميس 20 غشت 2020، تقييما للمرحلة السابقة من الحجر الصحي، ونقدا صريحا للمرحلة الحالية بعد رفع الحجر، وخارطة طريق من أجل ربح رهان المعركة ضد العدو الخفي، ووضع الخطاب الجميع أمام مسؤولياته في هذه المرحلة التاريخية التي تعبرها البشرية التي لم تستفق بعد من هول صدمة لم تفكر يوما أنها ستجد نفسها في مواجهتها. ووضع قوتها موضع مساءلة.

الخطاب الملكي تميز، بلغة مباشرة لا تحتمل التأويل، تضع الأصبع على الجرح، مُرَكزة، مُكَثفة، غنية بالدلالات، صريحة تفتح اﻷعين على السيناريوهات الممكنة.

في موضوع جائحة كورونا، بدأ جلالته بالوقوف على ما ميز المرحلة اﻷولى التي أبان فيها المغاربة عن انضباط وتعبئة جماعية وإصرار على كسب المعركة. لقد كانت فعلا معركة شكلت مفاجأتها صدمة للجميع أثرت على نفوس الكبير قبل الصغير. فلأول مرة وجد المواطن نفسه مرغما على ملازمة بيته والحد من تحركاته، بل إذا وجد نفسه مرغما على الخروج لقضاء مآرب لا يُستغنى عنها، عليه استصدار ترخيص استثنائي ممهور بتوقيع عون السلطة الذي أصبح الجميع يلهث وراءه من أجل هذا التوقيع الذي يفتح الباب على مصراعيه أمام الإنسان للتسوق أو التطبيب أو حتى للعمل، وله في ذلك مآرب أخرى.

المرحلة خلقت نجومها بامتياز! رجال الأمن أصبحوا في الواجهة، همهم هو دفع المرء إلى الالتزام بالحجر الصحي. يرقبون التحركات، يفحصون تصاريح الخروج، متمسكون بالحواجز التي وُضعت لهذا الغرض. التحق بهم رجال السلطة الذين جابوا الدروب واﻷزقة، موجهين النصائح والإرشادات، فاتحين الحوار تلو الحوار مع الشباب وكبار السن والنساء والباعة... لقد غيروا مسار الطوندونس......

الالتزام والانضباط اللذان تحدث عنهما جلالة الملك في خطابه التاريخي، لم يكونا دون استثناء، كان هناك رافضون للحجر، لكنهم كانوا فئة قليلة، تتكون فب الغالب من فئات هشة من ساكنة الهوامش تجربة المرحلة شكلت ملحمة وطنية بهرت العالم. قرارات استباقية، مبادرات شبابية وجمعوية، انخراط جماعي لم تُسْتَثْنَ منه المقاولة، مدارس مُغلقة لكن الدراسة لم تتوقف. وأخيرا، نفوس مطمئنة بعد دعم الفئات الهشة التي توقفت أنشطتها نتيجة فرض الحجر الصحي. كل هذا جعل الخطاب الرسمي في هذه المرحلة مطبوعا بتفاؤل، حجب أفق الرؤية، وربما كان من بين الأسباب المؤدية إلى ما نحن عليه في الفترة الحالية التي وصفها الخطاب الملكي بالصعبة والغير مسبوقة للجميع. ظهر ذلك بشكل جلي في الاستعمال المفرط لعبارة: الوضع تحت السيطرة. التي لم يتوانَ رئيس الحكومة ووزير الصحة، في كل المناسبات ، تفاؤل جعل المواطن يستعجل انهزام كورونا، بعد أن عانى في ظل الحجر الصحي، وتحمل رغم ذلك أملا في وضع حد لهذه المعاناة في أقرب وقت. كما أن التخلص من مراكز استقبال مرضى كوفيد 19 والاقتصار على فتح مركزين اثنين والاستعداد لاستقبال مرضى ربما استبعدوا خلال فترة الحجر الصحي، الخطاب الإعلامي الذي رافق الفترة، ساهم هو الآخر في استعجال الإجهاز على الفيروس اللعين، وذلك بالحديث عن: ما بعد كورونا، لدرجة أن بعض الظرفاء كتب، إذا اردت أن تكتب مقالا يحطم نسب المتابعة، فَضَمِّنْ عنوانه عبارة، "... ما بعد كورونا".

المرحلة الحالية التي لا زلنا نتخبط فيها مصدومين من التزايد المستمر لعدد المصابين، وارتفاع نسبة الإماتة، واختناق النظام الصحي الذي اصبحت أطره من أولى ضحايا الوباء بعد ما شكَّلوا في السابق الخطوط الأمامية للجنود البواسل الذين كان همُّهم هو وضع الحواجز تلو الحواجز أمام العدو الخفي. لذلك فإننا لن نقف عند توجيه اللوم لهذا، ومحاسبة ذاك، فوقت المحاسبة ما حان حينه، وينبغي له أن يحين حتى توضع النقط فوق الحروف. لكن ما يهمنا الآن هو ذلك التراخي غير المقبول في خرق التدابير الصحية الوقائية، من قبيل التخلص من الكمامات، أو حملها دون وضعها، أو وضعها بالشكل الذي لا تشكل به حاجزا أمام انتشار الفيروس، مع عدم احترام التباعد الجسدي، وعودة المصافحة والعناق إلى سابق عهدهما، والخطورة لا تتمثل في هذه السلوكات بحد ذاتها، بل تتعداها إلى المبررات المقدمة لتسويغ هذا السلوك، فقد انتشر خطاب التشكيك مصحوبا بنظرية المؤامرة، أصبح معه الملتزمون بالتدابير الوقائية، موقع استهزاء. فأول خطاب يواجَه به واضع الكمامة والرافض للمصافحة: حتى أنت تؤمن بهذه المسرحية؟.. وقد يسألك مستهزئا: هل تعرف شخصا أصيب بكوفيد 19؟ في إشارة إلى أنه رغم الضجة المثارة حول المرض، فنحن لا نحس به يقترب منا، وهو ما يجعل الأمر يبدو كما لو أنه مسرحية سيئة الإخراج تحاول زرع الرعب فينا لسبب ما، حسب هؤلاء المشككين. وصاحب انتشار نظرية المؤامرة تقاسم جدول على مواقع التواصل يقدم مقارنة بين ما تخلفه أمراض أخرى من موتى، وما خلفه كوفيد 19 من موتى هو الآخر، ليذهب بك إلى استنتاج أن اﻷمر لا يستحق هذه الضجة ما دامت اﻷنفلونزا العادية قد تخلف ضحايا ربما يفوق عددهم ضحايا الفيروس التاجي، وهي مغالطة لا تستحضر سرعة انتشار المرض واكتساحه اليومي لفضاءات جديدة، مع إهمال احتساب نسبة الموتى ضمن أعداد المصابين، وهذا ما كان يتم تغافله، علما أن مع مرور الوقت، أصبحت الوقائع تدحض الاتجاه الذي كان يسير فيه مروجو الجدول.

وللإشارة فإن نظرية المؤامرة تم الترويج لها منذ بداية الأزمة على المستوى العالمي، وعلى مستويات عليا. لدرجة أنها عملت على تأجيج الحرب الباردة بين الكبار الجدد والقدامى، الصين والولايات المتحدة اﻷمريكية. وقد وجدت صدى لها عندنا بشكل عشوائي مدعمة بأفكار مستوحاة من قصص الخيال العلمي وبيقينية عمياء تدفع المعتقدين بها إلى الاستهزاء بكل من لا يسايرهم في ذلك، وقد وجد بعض ممن يروجون لها في الارتجالية التي طبعت عمل الجهات المسؤولة في مراحل التخفيف من الحجر الصحي والتخبط في القرارات والقرارات المضادة، بعضا من العناصر التي يرون أنها تدعم هذا الاتجاه. والغريب هو أن تنظم هذه الجهات ما تسميه بالحملات التوعوية المعتمدة على فكرة أن كورونا لم تنهزم وأنها لا تزال تعيش بيننا، في حين أن الرافضين والمشككين، أو على اﻷقل عدد منهم، لم يعودوا مؤمنين بأن كورونا مرت من هنا، بل إنها لم توجد اصلا. وهذا ما يستدعي تبني خطاب آخر، ويستدعي من قنوات الإعلام العمومي العودة إلى ما طبع المرحلة السابقة من اشتغال على الإبلاغ واﻹقناع والدعوة إلى الاحتياط مصحوبة بخطاب تفسيري علمي يجعل المعلومة في متناول الجميع.

ما العمل إذا استمر الوضع في التأزم، وازداد ارتفاع عدد المصابين، وتوجهت نسبة الإماتة في الارتفاع؟ الخطاب الملكي يضعنا أمام نوعين من السيناريوهات: الأول يتمثل في العودة إلى الحجر الصحي مع ما فيه من كلفة على فاتورة البلاد ونفسية العباد وتأزم الأوضاع، علما ان الدعم الذي سبق أن قُدم في مرحلة الحجر الصحي السابقة، لا يمكن ان يدوم إلى ما لا نهاية، كما جاء في الخطاب الملكي، موضحا أن الدولة اعطت أكثر مما لديها من وسائل وإمكانيات. السيناريو يتمثل في رفع تحدي محاربة هذا الوباء بروح وطنية، وبتبني سلوك وطني مثالي ومسؤول من طرف الجميع. وهي دعوة موجهة للجميع، من سلطات عمومية وباقي القوى الوطنية للتعبئة واليقظة، والانخراط في المجهود الوطني، في مجال التوعية والتحسيس وتأطير المجتمع، للتصدي لهذا الوباء. كما دعا إلى ذلك جلالته.

هي دعوة إلى تبني أكثر من مقاربة وإلى مجهود جماعي، نتمناه أن يكون عقلانيا بعيدا عن كل بهرجة، وأن يعتمد حملات تقوم على فهم العقليات، قبل إنتاج الخطاب، حتى لا يكون صيحة في واد لا تجد انعكاسا لها في الالتزام وتبني السلوك المطلوب، فلن تقنع مواطنا بالتجول في الشوارع، والحديث معه بلغة غير لغته، وبتنظيم حملات للتصوير فقط، بل ينبغي أن نتساءل بجدية، لماذا يحقق خطاب التفاهة الطوندوس، ولا يتجاوز غيره حنجرة الناطق به؟