سأنطلق في مقاربتي البسيطة لدوافع الكذب عند الناس - والتي ربما يعرفها أغلبكم – من جملة ريتشارد عزوز الشهيرة: "علاش كتكذب؟"، المدرجة أيضا في أغنية "المتنبي" للفنان المغربي عمر سهيلي، المعروف في الوسط الفني بـ"ديزي دروس" Dizzy Dros. الأغنية بالمناسبة تبتعد أشدّ ابتعاد عن لغة (المتنبي)، فلا تعرّضوا أطفالكم لها، ولا تجربوها أنتم البالغون دون سماعة أذن.

على كل حال، أشير أولا إلى أن تعريفي الشخصي لفعل الكذب لا يقتصر على فكرة "مخالفة الكلام المنطوق للواقع" من خلال التصريح المتعمد بأحداث ومعلومات ونوايا وأحاسيس تنافي ما يعرفه ويفكر فيه المرء حقا؛ بل يشمل أيضا ذِكر جزء معلومٍ من الحقيقة وطمس جزء آخر عن قصد، وهذا يدخل في خانة التحايل والتلاعب بالحقائق. من جهة أخرى، فلطالما ربطتُ صفة الكذب بصنائع ذميمة عديدة تصب في البحر نفسه ولا تعدو أن تكون أوجها أخرى للكذب، كالافتراء والتضليل والغش والخداع والنفاق.

إذا عدنا بالزمن إلى الوراء قليلا، سنجد أن "الكذب للإفلات من ورطة" هو باكورة أصناف الكذب التي عهدناها صغارا، إما كمشاهدين أو ممارسين، وكم من طفل ألف الكذب للنجاة من العقاب أو حتى المساءلة عن فعل ارتكبه - وقد لا يكون بالضرورة فعلا سيئا-، وهذا الكذب الذي يتم أحيانا بإيعاز من الأسرة أو الأصدقاء، يورّث صاحبه، إذا استمر عليه، حس اللامبالاة وانعدام المسؤولية، وسيُقْدِم غالبا، باحترافه التملص من المحاسبة، على تجاوز الإنكار فقط كوسيلة فضلى لـ"الخلاص"، إلى محاولة تبرير هذا "الإنكار" بالتلفيق وإلصاق التهم. فعند توريط الآخرين مكانه، سيكون قد درأ الشكوك وكسا موقفه غطاء زائفا من "الشفافية والمصداقية". وأفترض أن هذا يفسر غياب النزاهة وحُسن الحكامة و ثقافة الاعتراف بالخطأ لدى كثير من القيمين على شؤون البلاد، فعند وقوع مشكلة يسير التحقيق نحو ثبوت تسببهم فيها، ستراهم يتسابقون لتبرئة أنفسهم وإلقاء اللوم على غيرهم، بل يعدّون احتياطا لائحة "أكباش الفداء" تحسبا لتفاقم الأوضاع، وهذه في نظري توظيف ناجع لـ"الذكاء الإستراتيجي" Strategic intelligence في سياق شرير جدا.

غير بعيد عن هذا النسق، نجد "الكذب من أجل الإبهار"، وهذا الصنف من الكذب يستشري غالبا في صفوف من يشعرون بالنقص وضعف الثقة بالنفس، ضعف يكون عموما نتاج تربية سيئة ونظرة سطحية إلى الحياة، ما يجعل هؤلاء لا يتوانون عن ابتداع قصص يزعمون فيها مثلا امتلاك أشياء أو معرفة أشخاص أو زيارة أماكن أو القيام بأنشطة معينة...، كل هذا بغية إثارة الإعجاب وجذب انتباه من في محيطهم.

وتزداد وطأة عقدة الدونية عند هذه الفئة من الناس، بانتقال بعضهم إلى بيئة جديدة لا يستطيعون فيها تأقلما، فيحاولون بشتى الطرق العثور على مكان يندسّون فيه، ناهجين في ذلك الكذب حول تجاربهم الشخصية وتكييف آرائهم لتماثل آراء الذين يرجُون صحبتهم -حتى لو لم يكونوا مقتنعين بها-، بل قد يغيرون أسلوب حياتهم كليا أملا في نيل رضا من يعتبرونهم " مجموعة نخبوية" يجب الانضمام إليها – مهما كلف الثمن - لتحقيق "تقدير الذات" Self-esteem. وأعتقد أنكم قابلتم واحدا من هؤلاء في وسط الدراسة أو العمل، وكثيرا ما يكون في هيئة شخص متسلق محب للظهور، يتحدث عن نفسه كثيرا، بصوت شديد الارتفاع أحيانا، ويريد أن يصبح "صديقا للجميع" - الأعلى منه مرتبة بالتحديد-، فيسمح لنفسه بمداهنة هذا والتقرب من ذاك، ويقحم نفسه في حوارات لا تخصه، بل يتطفل على مجالس لم يدعه إليها أحد، كاغتنامه فرصة استراحة الزوال لفرض نفسه على مديري العمل أثناء تناول وجبة الغذاء، التي سيتغنى خلالها بـ"خبرته" وسيتبجح بـ"إنجازاته المميزة"، ثم لا يلبث أن يمر إلى المرحلة الثانية من خطته المشينة، مترصدا كل فرصة سانحة للسخرية والحط من شأن زملائه الآخرين والتحريض عليهم كذلك، راميا إياهم بالبهتان سرا وعلانية، وما نَبَع كيدُه لهم إلا من فرط الحقد والغيرة، خصوصا تجاه من يُلفي فيهم منافسين يتفوقون عليه في العمل ولا يتمنى فوزهم بترقية مرتقبة مكانه أو حتى أن يظفروا بتحفيز أو إطراء كلامي، فيسارع إلى مواراة عيوبه وكبواته بانتقادهم وكشف عوراتهم - لينشغل بها الجميع-، مع الإمعان في مدح نفسه بشكل متواصل ليبقى هو محط الأنظار والاهتمام، وليحظى ختاماً بقبول Approval"ملوكه" الحاليين، الذين لن يتردد في دوسهم دوسا متى أفسح له المجال مستقبلا، تطلعا إلى مصلحة أو "مرتبة أسمى".

الخطير في سلوك أصحاب الشخصية الانتهازية التي تطرقت إليها أعلاه، أنهم لا يكتفون بالكذب حول أنفسهم والمبالغة في التملق إلى درجة لحس الأحذية Bootlicking – مجازا- رغبة في "تحقيق الذات" Self-actualization، بل يتجاسرون على الإضرار بكل شخص قابع في دائرتهم، معتبرين إياه "مصدر تهديد" قد يعيق بلوغ أهدافهم الملتوية، لهذا نجد معظم هؤلاء من هواة الضغينة المجانية Méchanceté gratuite، فذلك يخلَف في كياناتهم المريضة ارتياحا ويقربهم –طبقا لقناعتهم الداخلية- خطوة من نيل مساعيهم المنشودة، تفعيلا لمبدأ "الربح بأي وسية" Winning at all costs أو قولة "أنا ومن بعدي الطوفان" لخليلة لويس 15، مدام دي بومبادور.

على صعيد مواز، "الكذب من أجل الإبهار" لا يأخذ دائما منحى سلبيا على مستوى إلحاق مرتكبيه الأذى بالناس بقدر ما يلحقونه بأنفسهم إجمالا، فبعض هؤلاء "الكاذبين" ممن لا يكترث لهم أحد (بسبب الترعرع والعيش في أجواء أسرية يحفها الفقر والإهمال والعنف، أو معاناتهم من مشاكل جسدية، أو صعوبة في التواصل،...) يبحثون حصرا عن تعويض فترة التهميش التي اجتازوها - أو ما زالوا فيها-، والحصول بالتالي على العناية والاهتمام وبعض المشاعر الدافئة، وهم في ذلك يضطرون أنفسهم آسفين إلى الكذب و"الخداع" ليصيروا -حسب ظنهم- "أهلا لمقام" الشخص الذي يبتغون استمالته.

المعضلة في هذه الحالة ليست في فعل "الكذب" لوحده، فنحن متفقون ضمنيا أنه مجانب للصواب؛ لكنها تكمن في الإرهاق النفسي والمادي الذي يتجرعه العاكفون على هذا اللون من الكذب، فهُم بصدد تنفيذ ما يشبه "عملية تنكر" تتطلب استثمارات مهمة، تبدأ بالإجهاد أثناء تقمص دورٍ أو تقليد شخصيةٍ لا تمثلهم Trying so hard to be something they’re not ، وسيلحظ المرء الفطن في هؤلاء استفحال الخيلاء والتكلّف في الحركات والتصنع في طريقة الكلام على نحو مثير للريبة، كما أنهم سيدفعون كل ما يملكون لإتمام "الرسمة المثالية" عن أنفسهم، وسأضرب لكم هنا مثلا طريفا من أيام الثانوي، حين كانت ثلة من الفتيات البسيطات المرتحلات مشيا إلى الدراسة يستقللن سيارة أجرة صغيرة عند اقترابهن من الثانوية، ليصلن فيها إلى الباب وتلمحهن أعين صديقاتهن "الغنيات" اللائي سيجزمن بكون رفيقتهن البسيطة "ميسورة" أيضا، وقد تتجرأ "الفتاة البسيطة" نفسُها على سرقة المال لشراء منتجات تجميل تجنبها "حرج" حضور لمّة الفتيات خاوية الوفاض، وهي مجمع خاص يُفرده نفر من النساء، بغض النظر عن السن، لاستعراض ما يحملن من العطور وأدوات الزينة والملابس التحتية الفاخرة. ستكبر التلميذة البسيطة، وستجد نفسها مجبرة على إيجاد حلول لمجاراة أكذوبة نمط العيش التي أقنعت نفسها بتصديقها والحفاظ على صورتها الهلامية من الاضمحلال، ستزداد احتياجاتها ولن تكفيها فتافيت المصروف والدريهمات المسروقة لشراء أغراض الأناقة وتغطية تكاليف كراء السيارة والسفر والسهرات... واقتناء آخر هواتف الأيفون - الذي يلزمها طبعا إبراز نصفه من جيب بنطلون الجينز الممزق، الملبوس فوق سروال شبكي أسود Fishnet pants-. عليها أن تعمل وهي التي لم تكمل دراستها، وجعلت سابقا والدها المسكين يدفع أقساط تمدرسها في مؤسسة خاصة لم تنجح فيها أيضا، لكن التعليم ليس من أولوياتها حقا، المهم أن تستديم "وضعها الاجتماعي" المزور، وهي الآن تطمح إلى جني المال في وقت قصير من عمل يسير بأجر وفير، فما العمل الذي تنطبق عليه هذه الشروط ويجوز لها في الوقت نفسه مزاولته بمؤهلات علمية باهتة؟ لكم أن تحزروا.

الكذب إذا تغلغل في شخصية المرء سيفضي لا محالة إلى عواقب وخيمة وسوء جسيم يتكبده الشخص الكاذب قبل المكذوب عليه.. بالمقابل، هناك من يكذب بغرض استجداء نصرة وتعاطف الناس، وهم قوم يتقنون ادعاء المسكنة ولعب دور الضحية، فيحكون قصصَ تعرُّضِهم للظلم والأذى مجتثين الفصول التي تتناول الأسباب الحقيقية وراء هذا الجور، كأن يشتكي لك أحدهم شخصا "سبّه دون وجه حق"، مُغيّبا تماما سرد تفاصيل الواقعة وخلفيتها، لتجد أن من سبّه مثلا فعل ذلك جراء تراكماتِ استفزازٍ ومضايقةٍ مارسها في حقه آنفا صديقنا المشتكي، الأمر أشبه بـ"دموع التماسيح" أو المثل الشعبي الرائج "ضْربني وبْكى، سْبقني وشْكى".

ولأن "الكذب من أجل الشفقة" - كما أسمّيه- لا يحدث دوما بنية انتقامية، أود التعريج على الأفراد الذين يعتنقونه سعيا خلف الاغتناء وحصد الغنائم دون عناء، متجردين من أي شرف أو كرامة، وهذا الكذب يتجسد غالبا في صيغة تسول غير مباشر يتسم أحيانا بالتلميح، أو التذمر والشكوى المبالغ فيهما، فضلا عن ملاطفة المحاوَر مع التذلل له بغرابة...، وستجد هؤلاء يتلون عن ظهر قلب حكاية خرافية أو اثنتين لمن هب ودب، وإذا كنت ممن يعتاد مقابلتهم بحكم الجوار، فستضجر حتما من كثرة التكرار، وستتضح لك في كل مرة تصادفهم، تناقضات تشوب مكونات القصة، مغفِلين أو مستبدلين قِسما منها، عندها يباح لك اختبارهم معتمدا المثل المغربي "نْسِّي الكذاب وسْولو".

وعكس التيار، ينتصب "الكذب الوقائي"، الذي أعتبره من مظاهر "الذكاء الاجتماعي" Social intelligence لدى طائفة من البشر، حيث يتبنى هؤلاء الكذبَ كآلية دفاعية استباقية فعالة لصون الخصوصية، وتجنب الوقوع في فخ نمامين أو مبتزين محتملين.

في هذا الإطار، سيُؤْثِرون المراوغة والتمويه على الصدق - بنسب متفاوتة حسب الموقف-، محرِّفين جملة من المعلومات الشخصية أو الحساسة، لا سيما في حضرة الأجانب أو حتى مع أصدقاء وأقارب فضوليين لا يأتمنونهم، توقّعْ ألاّ يُدلوا أحيانا حتى بأسمائهم الحقيقية طوال محادثة عفوية تخوضها معهم، وأنا أتفهم أنهم بذلك يتحصنون من إمكانية استعمال بياناتهم ضدهم لاحقا، لأنها تجعلهم عُزّلا واهنين Vulnerable. لكن الارتباك والغموض في المسألة سيطفوان بين الفينة والأخرى، عندما يتبين لهم بعد مضي مدة كذبوا فيها على شخص اتقاءً وخشية، أن هذا الأخير جدير بثقتهم وأنهم كانوا مخطئين في حكمهم عليه منذ البداية. فأي تبريرات وأي تفسيرات سيطرحون بخصوص الموضوع؟ هل سيبادرون لإماطة اللثام عمّا أخفوا أم سيواظبون على الكذب حذرا من مغبة خسارة الشخص إذا أخبروه الحقيقة؟ ثم ألا يدركون أن الأيام كفيلة بكشف ما أضمروا في نهاية المطاف؟ ربما يصعب التكهن بالخيار الأرجح، لكن الأكيد أن هذا الكذب يضع مدمنيه في مأزق أخلاقي Dilemma عويص يُفقدهم احترام الذات والخَلْقِ، وأنا أراه ضربا من ضروب "الوسواس القهري".

لا أنفي أن تنوع بواعث الكذب وتعدد أنواعه ومجالاته أوسع من أن يختصر في العينة الضئيلة التي أوردتها، ويقيني أنه آفة باقية فوق ظهر البسيطة ما دامت البشرية، ولن يستقيم حال بني آدم إلا إذا تخلصوا منه؛ لكن ذلك حلم مستحيل بالرغم من مثاليته، فربما كُتب لهذه الثنائيات المختلفة (الكذب/الصدق، الخير/الشر، الحزن/السعادة، إلخ) أن ترافقنا أبدا لنمتحن أنفسنا ونتعلم دروس الحياة. أما الصدق، فعملة نادرة في عالم عجيب، أصبح فيه الكذب موضة رائجة وورقة رابحة يستحسنها الكثيرون، بل يحضون عليها، العائلة والشارع والإعلام والكتب...، ومن يتحلى بالصدق في أيامنا إنسان شجاع ومتصالح مع ذاته، لن يلتفت إلى إسقاطات المجتمع النمطية عليه ولن يدعها تؤثر فيه؛ لكنه لن يسلم دائما من تبعات صدقه، فهو بطل محبوب عند جموع الأخيار الطيبين ودخيل منبوذ في عين الوضعاء والخبيثين.

 

أسامة حمامة