التراخي العقابي:

بعد كورونا البؤر المهنية – السرعة الأولى - التي تتحمل فيها الحكومة مسؤوليتها الكاملة؛ إن لم يكن قانونيا فسياسيا على الأقل، لأنها صَفَّدت كل الأنشطة الاقتصادية الشعبية لمدة ثلاثة أشهر؛ تاركة الحبل على الغارب للمستثمرين الكبار في مختلف القطاعات؛ حتى في ما يخص بروتوكولات قطع سلاسل العدوى على مستوى الشغيلة؛ نقلا، تباعدا، تكميما، وحتى بيولوجيا (التحليلات). وأقوى إثبات لهذه التهمة يأتي من الحكومة إياها، إذ فتحت تحقيقات بعدية، هنا وهناك، تدينها هي قبل أن تدين المعنيين؛ لأن الأمر يتعلق بفيروس سريع الفُشو، يتطلب مبادرات قبلية صارمة، أو آنية على الأقل، وليس محاكمات بعدية.

هذا الزلل الفادح نقل الوباء من العد بالعشرات، إلى العد بالمئات؛ كما نقل الحالة النفسية للمواطنين، من الرهبة والحزم والحذر، إلى نوع من التراخي العقابي للحكومة، وهو السائد إلى اليوم.

أما ماليا فقد جعل من ملايير الدراهم التي صرفت من صندوق كورونا الملكي، لتغطية بعض حاجيات الشغيلة المعطلة والفئات الفقيرة، مجرد استثمار غير مجد؛ في غاياته الأساسية المتعلقة بالحد من الوباء.

نعم لقد ساهمت هذه الملايير في محاربة الفقر؛ لكن مخطئة هدفها الأساسي: الحد من الجائحة.

لا أتصور أن يَمثل بعض الوزراء المعنيين أمام القضاء، جنبا إلى جنب مع المستهترين من أرباب المؤسسات المهنية؛ لكني أتمنى أن يحسم "القضاء الشعبي الانتخابي" في هذا الأمر؛ حيث لا حصانة لأحد.

من ضحى بالأمن الوبائي؟

بدل المعاني الدينية السامية للتضحية، التي تتضمنها شعيرة الأضحى؛ وعلى رأسها الافتداء الإلهي الذي صان "بذبح عظيم" دماء بشرية كانت ستنزف، طاعة من نبي الله إبراهيم لربه؛ بدل هذا، فقط، أضافت الحكومة "الإسلامية" للعيد معنى آخر يجُبُّ كل ما سبقه: التضحية بما تبقى للمواطنين من أمن وبائي، اشتري بملايير الدراهم، وبجبال من الصبر.

وعليه فبدل صيانة الدماء البشرية (حفظ الأبدان) اختارت الحكومة – في شقها الفلاحي على الأقل- غزو المدن بقطعان الماشية، وكسر الحجر بالإغراء بأسواق عشوائية هنا وهناك، وإشعال فتيل اللهفة الدموية الكبشية إلى أقصى حد؛ وصولا إلى السلب والنهب، أحيانا؛ في ضرب سافر لكل مؤسسات الدولة المعنية.

مرة أخرى فُتح الباب على مصراعيه لكبار مربي الماشية بالبوادي، قبل صغارهم؛ دون تحقق كل إجراءات التباعد التي وعد بها وزير الفلاحة؛ وكيف تتحقق إجراءات التباعد، في تدافع أهل الوبر مع أهل الحضر، على مدار أسابيع؟

بيد أن الأخطر في هدم مفهوم التضحية الدينية السامية، بالتضحية بما تبقى من الأمن الوبائي؛ التي جعلت "كوفيد19" تلَغ في دماء المواطنين؛ ناقلة العد من العشرات والمئات إلى الآلاف أسبوعيا؛ هو إغفال العامل الحاضر بقوة في تقاليد الشعب المغربي؛ ويتعلق الأمر بموسم الهجرة صوب الأقارب؛ في البوادي أكثر من المدن.

هذه المجازفة العيدية من رحم المجازفة المهنية، التي لم يتحمل فيها أي وزير المسؤولية؛ والحال أن استقالة حكومة لا تحرص على الأمن الصحي للمواطنين، تحصيل حاصل؛ أما أن يصل العد إلى الألف و"الألفين" يوميا؛ والمتهم، حسب كل الإثباتات، هو "العيد الحكومي"، ومن تفاصيله ذات الشهرة العالمية "ليلة النفرة الكبرى"، فهذا كان يستدعي إعفاء الحكومة وتعيين حكومة أزمة.

إن الدفع بمصالح الكسابين، خصوصا والعام جاف لا يصمد؛ وهو من باب المنفعة المؤدية إلى المفسدة الكبرى.

إن حاجيات المجازر، والمناسبات العائلية- مع بعض الدعم الحكومي - كانت كافية لتصريف المنتوج الرعوي السنوي.

هل يتم الانتقال إلى السرعة الثالثة؟

يقتضي تدبير الموسم الدراسي المقبل -20-21- ولأول مرة في تاريخ وزارة التربية الوطنية والحكومة بصفة عامة؛ تدبير موسم آخر يوازيه هو "موسم كورونا التعليمية"؛ لا هي مهنية هذه المرة ولا هي عيدية.

يشكل تدبير هذا الموسم تضافر جهود حقيقية وصارمة لوزارات: الصحة، الداخلية والتربية الوطنية.

إن التحدي الوبائي كبير جدا؛ اعتبارا للوضعية المعمارية لمؤسساتنا، وكل اللوجستيك التربوي التقليدي، الذي لم يهيأ لمواجهة الأوبئة. فعلا أثبت تنظيم امتحانات البكالوريا إمكانية تحكم مراكز الامتحان ببروتوكولات التباعد والحماية؛ لكن التجربة محدودة ومحصورة في مترشحي هذا الامتحان فقط؛ فكيف سيكون الأمر بالنسبة لجميع المتمدرسين في كل المستويات والمؤسسات؛ على مستوى الوطن كله؟

حتى بالنسبة لهذه التجربة لاحظنا تجمعات متهورة للممتحَنين، بأبواب المراكز والساحات المجاورة؛ مما هدم ركنا في كل الاحتياطات المذكورة.

إن التحدي صعب وخطير جدا، و"خير لأي واحد ألا يكون وزيرا للتربية الوطنية في هذا الظرف الوبائي".

لا يخفى أن النسيج الاجتماعي كله سيكون مستهدفا بكورونا التعليمية؛ الطفلة، المراهقة، الشابة، والكهلة.

إنها بكل هذه الأعمار الشديدة الحركة والنشاط، التي تتحرك أربع مرات في اليوم؛ من المساكن والمؤسسات واليها؛ في دورة وبائية – لا قدر الله – قد تعصف بكل هذا الوطن ومؤسساته.

لن تنهار المنظومة الصحية فقط؛ وهي الآخذة الآن في التهاوي؛ بل كل المنظومات، لصلتها العضوية بقطاع التعليم.

وحتى لا أطيل في تفاصيل كمية مرعبة، وانهيارات وفتن اجتماعية لا قبل لوطننا بها، أقترح من موقعي كإطار تربوي متقاعد، وباحث وكاتب، نسقا تعليميا خَلاصيا، تتحدد عناصره الأساسية في:

1. اعتبار التعليم، في الظرف الوبائي الحالي والخطير، غير أساسي: فضلة وليس عمدة؛ الأولوية لسلامة الأبدان والأرواح والأوطان.

2. إرساء كل اللوجستيك المادي والمعرفي والديداكتيكي، لتدبيره عن بعد، قصد الاحتفاظ بشعلته متقدة في نفوس الناشئة والمجتمع ككل؛ ولو بمردودية محدودة.

3. ما دام تعليمنا كان يتم في الحقيقة عن بعد؛ حتى قبل كورونا؛ لبعد البرامج والمناهج عن الحاجات الحقيقية للمتعلم والمجتمع؛ فاني أنصح باختصار هذه البرامج والإبقاء على الحيوي والأساسي منها؛ حتى يركز رجال التعليم أكثر على تثبيت وتطوير ديداكتيك التعليم عن بعد؛ وعدم إثقال العملية التعليمية التعلمية بمعارف، يمكن اكتسابها بوسائل أخرى وفي ما بعد.

4. هيكلة الأداء التعليمي عن بعد، بجعله حضوريا بالنسبة للأساتذة، داخل الفصول الدراسية المهيأة؛ وجعله أيضا خاضعا للتأطير التربوي والمراقبة؛ حسب ما يجري به العمل في أدبيات الإشراف التربوي.

5. استثمار الدولة في توفير اللوحات الالكترونية للفقراء من التلاميذ؛ وتقوية صبيب الأنترنيت و"مجانيته"؛ واعتبار هذا الاستثمار أساسيا في تحقيق الأمن الوبائي وسلامة الوطن.

6. خضوع التعلم التلاميذي عن بعد لنوع من المواكبة المباشرة؛ من خلال زيارات يقوم بها الأستاذ للأسر، بين الفينة والأخرى، للوقوف على حصيلة دروسه وصعوبات التعلم. (يمكن الاكتفاء باتصالات هاتفية أو فيسبوكية).

7. مواكبة لهذا سيكون على رؤساء المؤسسات، إلى جانب الإشراف المباشر على الجانب الإداري والمادي للتعلم عن بعد؛ نقل التدبير الإداري الورقي إلى الرقمية، بإحداث مواقع للمؤسسات، تستقبل طلبات التسجيل، وتسليم الشهادات، وباقي الإجراءات.

8. نفس الاقتراح بالنسبة للتعامل الإداري الوزاري المركزي، والأكاديميات الجهوية والمديريات الإقليمية.

(الكثير من الوثائق الورقية، الرائجة في القطاع، مجرد مضيعة للمال والوقت).

9. لإرساء كل هذه العمليات – خصوصا إصدار النصوص المنظمة لها، وعقد الندوات التكوينية للأساتذة - أقترح تأجيل منطلق التعليم عن بعد إلى مستهل شهر دجنبر. (لن يتضرر الغلاف الزمني للتعلم، اعتبارا لما سيحذف من دروس).

10. تعديل الوزارة للمرسوم المنظم للسنة الدراسية؛ بالتنصيص على رقميتها، واستدخال كل العناصر المتعلقة بالتعليم عن بعد.

على سبيل الختم:

لقد جعلت الجائحة المستفحلة التعليم عن بعد قدرا وليس اختيارا؛ إذ لا يوجد في التعليم الحضوري غير الهلاك لهذا الوطن الذي يجله الجميع.

وما دامت الجائحة متواصلة وغير عابرة، كما يقرر الخبراء، فلا مناص من إرساء كل أسس التعليم والتعلم عن بعد؛ وقد لا يكون هناك مستقبلا غيره، لا قدر الله.

أقول التعليم والتعلم، لأن هذا الشق الأخير يحتاج إلى جهود لم تبدأ بعد، رغم تجربة الشهور المنصرمة.

إن التفويج وكذا المزاوجة بين التعليمين، البُعدي والحضوري، لن يحدا من الجائحة إلا بنسب محدودة.

أتمنى ألا يغامر أي مسؤول بمصير هذا الوطن العزيز، ليقول في ما بعد: لقد أخطأت.. إن الوطن خط أحمر.

وعسى أن يصلح التعليم عن بعد – بالاختزال والجدية والتأطير - تعليمنا الذي ظل دائما بعيدا عن حاجياتنا.

 

رمضان مصباح الادريسي