أبوالعراب عبد النبي*

 

ظهر رئيس الحكومة خلال مناسبات عدة وهو يقوم بأدوار كمبعوث أو مفوض أو ناطق باسم الملك, وذلك في مناسبات عدة, نذكر منها تسليمه لأوسمة ملكية لشخصيات مسئولة في حديقة الحيوانات بتمارة, أو وهو يتلو برقية في مؤتمر حماية القدس الشريف بقطر. هذا الجانب في مهام رئيس الحكومة يطرح تساؤلات دستورية عدة, مما يستوجب الوقوف عنده من أجل فهم معانيه, من خلال طرح السؤال حول حقيقة العلاقة الدستورية بين رئيس الحكومة والملك.

 

وتستدعي الإجابة على هذا السؤال الرجوع بطبيعة الحال إلى مقررات الدستور الجديد, والتي تقودنا تلقائيا إلى مسائلة الباب السادس الذي يختص في "العلاقات بين السلطّ". إلا أن المتصفح لهذا الباب من الدستور يكتشف أنه بالفعل يحدد العلاقة بين الملك والسلطة التشريعية (فصول 95 إلى 99), والعلاقة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية (فصول 100 إلى 106), ولكن لن يجد فيه أي تنظيم للعلاقة بين الملك والسلطة التنفيذية, علما أن الدستور في هذا الباب يحدد مفهوم السلطة التنفيذية في الحكومة ورئيسها. هذا الغياب يبدو مفاجئا, خاصة وأن مراجعة سلطات الملك والحكومة تظهر تداخلا بينهما في ممارسة السلطة التنفيذية على مستويات عدة, فكان لازما تحديد آليات علاقتهما وتنظيمها دستوريا, بما سيمكن من الخروج بهذه العلاقة من الغموض, ويحميها من عدم التوازن الذي ظلت تعرفه في ظل الدساتير السابقة.

 

وإذا كان لإشكالية هذه العلاقة أوجه عدة يمكن تناولها بالتحليل والدرس, فإننا في هذا المقال نكتفي بتناول أحد أبعادها الأساسية من خلال التساؤل حول الإطار الدستوري الذي يؤطر العلاقة بين الملك و رئيس الحكومة, هل يحكمها مبدأ التراتبية لصالح الأول, أم تخضع لمبدأ الاستقلالية ؟ لنبدأ بداية بسؤال التراتبية, حيث إذا كان الجواب بالإيجاب, فإن تساؤلا آخر يفرض نفسه, ويتعلق بطبيعة هذه التراتبية, هل هي وظيفية هرمية تجعل رئيس الحكومة يعمل تحت تعليمات الملك, وفي هذا الإطار, يجب تفسير الأدوار التي سبق ذكرها للوزير الأول كممثل أو ناطق باسم الملك, من خلال هرمية ينفذ من خلالها تعليماته وتوجيهاته, بما يسقط عنه مسؤولية هذه الأدوار. أم هي تراتبية رمزية تجعل رئيس الحكومة, رمزيا وليس وظيفيا, تحت سلطة الملك, وهنا يبقى السؤال مطروحا حول تبعات ومسؤولية هذه الأدوار. وبصفة عامة, فإنه إذا كان بالإمكان التمييز في عمل رئيس الحكومة بين ما يفعله باستقلالية بصفته رئيسا للسلطة التنفيذية حسب الفصل 89, وبين ما يفعله تحت إمرة الملك وتنفيذا لتعليماته كجزء من وظيفته كوزير أول, وبين ما يفعله بشكل رمزي أو غير رسمي باسم الملك, فإنه في جميع هذه الحالات, يبقى تحديد تبعات المسؤولية والمسائلة في عمل رئيس الحكومة مطروحا, في ظل الغموض الذي يكتنف هذه الأدوار (Manque d’Imputabilité).

 

ولما كان الدستور لا يجيب على هذه الأسئلة بصفة مباشرة في الباب السادس المتعلق بتنظيم العلاقة بين السلط, وجب علينا بطبيعة الحال البحث عن الجواب من خلال استلهام النصوص الأخرى للدستور, والتي نجد فيها إشارات عديدة تساعدنا في تفكيك هذه العلاقة. وفي هذا الإطار, وفيما يتعلق بسؤال التراتبية, فإن الدستور لا ينص في أي فصل من فصوله على أن رئيس الحكومة ووزراءه, في إطار السلط المخولة لهم, يعملون في إطار توجيهات أو تعليمات الملك, بما قد يفيد وجود علاقة تراتبية هرمية. وتتأكد هذه القاعدة منذ البداية في إطار المبادئ العامة للدستور, حيث ينص الفصل الأول على مبدأ "التوازن بين السلط".

 

وإذا كان الدستور ينص في العديد من فصوله على أن رئيس الحكومة ينوب عن الملك في عدد من المهام, كرئاسة المجلس الوزاري, أو المجلس العسكري, فإن هذا مما يجب فهمه في إطار تقاسم الأدوار بما يمكن من استمرار عمل الدولة, حيث ينص الدستور أيضا في فصله الأول إلى جانب الفصل بين السلط على تعاونها. وهذه العلاقة الغير التراتبية تتجلى بشكل واضح في لحظتين أساسيتين في تاريخ كل رئيس للحكومة, لحظة تعيينه, ولحظة نهاية مهامه. فالأولى تأتي تلقائيا بالاختيار الشعبي الانتخابي والذي يعطي للوزير الأول شرعية تعيينه, والتي تسمو على إرادة الملك, إذ لا يكتسي التعيين الملكي للوزير الأول إلا طابعا تصريفيا, تماما كما هو الحال في نظم سياسية برلمانية, كالنظام الإيطالي أو الألماني, حين يعين الرئيس الأمين العام للحزب الفائز في الانتخابات وزيرا أولا. وفي هذا الإطار, ينص الفصل 88 من الدستور المغربي على أن الحكومة تعتبر "منصبة بعد حصولها على ثقة مجلس النواب", حيث أمكن التمييز هنا بين سلطة التعيين التصريفية (الملك), وسلطة التنصيب التفعيلية (البرلمان).

 

أما اللحظة الثانية, فتأتي بنهاية التفويض السياسي الشعبي بما يوجب القيام بانتخابات جديدة. ومن المهم في هذه النقطة التعريج على الصلاحية المخولة للملك في حل البرلمان (الفصل 96), حيث يجب فهمها في إطار التوازن بين السلط, وكتعبير عن الدور الذي يلعبه الملك كرئيس للدولة في الحفاظ على حسن سير المؤسسات واستمرارها (الفصل 42). إلا أن هذه الصلاحية ليست مخولة للملك إطلاقا, بل مرهونة بالعودة من جديد إلى الشرعية الشعبية الانتخابية التي تفرز وزيرا أولا جديدا, بعد انتخاب مجلس برلماني جديد في أجل لا يتعدى شهرين على الأكثر حسب الفصل 97. وهذه القاعدة, التي تجعل العودة إلى الانتخابات حلا للدولة في حال عدم تجانس سلطاتها, نجدها في دساتير كثيرة, كالدستور الفرنسي مثلا, حيث يمكن للرئيس حل البرلمان واستدعاء انتخابات جديدة. وقد استعملها الرئيس السابق جاك شيراك سنة 1997, للخروج من التعايش السياسي (Coabitation) الذي حرمه من التوفر على حكومة موالية له, إذ كان الحزب الاشتراكي المعارض له آنذاك يمتلك الأغلبية البرلمانية. إلا أن اللافت للانتباه في هذه الحالة بالذات هو أن الانتخابات التي استدعاها الرئيس بعد حل البرلمان لم تمكنه من الحصول على أغلبية برلمانية, بل فرض عليه الفرنسيون التعايش من جديد مع حكومة اشتراكية.

 

وبموازاة لهذا الحق الذي أعطاه الدستور للملك في حل البرلمان, يمارس رئيس الحكومة أيضا هذا الحق بنص الفصل 104 الذي يخوله الحق في حل البرلمان. ولعل منحه هذه السلطة, يجعله يتمتع دستوريا بنفس الحقوق المخولة للملك على المستوى السياسي. لنعود هنا للسؤال حول الإطار الدستوري الذي يؤطر العلاقة بين الملك و رئيس الحكومة بين مبدئي التراتبية والاستقلالية, لترجيح الثاني كمبدأ حاكم لهذه العلاقة. وعليه, فرئيس الحكومة يتوفر على تفويض كامل لممارسة كل سلطاته بشكل مستقل, كتعبير عن خيارات أغلبيته الحكومية, بما فيها القررات والسياسات التي يتم اتخاذها داخل المجلس الوزاري. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الاستقلالية تتماشى والتعاون اللازم بين السلطات (الفصل 1 من الدستور), وفق القوانين التنظيمية التي تنظم تعاونها وتقنن عملها.

 

وبعده, نعود أيضا للجواب على السؤال الذي ألهم هذا المقال في مقدمته حول المعنى والفحوى الدستوري لهذه الأدوار التي يقوم بها رئيس الحكومة كالتوشيح بالأوسمة أو قراءة الرسائل الملكية, بالقول أن هذه الأدوار يصعب قراءتها والتأسيس لها دستوريا, وتطرح بشكل واضح ضرورة إعطاء سلطة رئيس الحكومة الاستقلالية والشرعية الكاملة. وإذا كان من اللازم التذكير على أن الدستور الجديد لم يحدد بشكل واضح حدود السلطة التنفيذية في علاقتها بالملكية, فإن هذه الأدوار السابق ذكرها تزيد هذه العلاقة غموضا, وتوحي بتبعية رئيس الحكومة للملك, بما قد يعطل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة في عمل رئيس الحكومة ووزراءه, وهو المبدأ الأساسي الذي بدونه تفقد الديمقراطية والانتخابات والعملية السياسية برمتها كل معانيها, حيث تغيب أي إمكانية لتقييم المسؤولية السياسية وتبعاتها.