لا "لحم الراس" ولا "بولفاف" ولا حتى "الكوطليط"، يمنعنا من العودة بشكل اضطراري إلى ما حدث عشية عيد الأضحى المبارك، من حالة فوضى وانفلات وسرقات كانت "رحبة" الحي الحسني مسرحا لها، في واحدة من المشاهد "غير المسبوقة ، التي كلما تم الوقوف عند مقطع فيديو يوثق لها بالصوت والصورة، كلما انتابنا إحساس أقوى في أن مشكلتنا ليست في جائحة "كورونا" التي كشفت بقساوة عن زلاتنا وهفواتنا وتناقضاتنا، بل في جائحـة "العبث" و"التهور" و"انعدام روح المسؤولية" و"الأنانية" و"التيهان" و"الانحطاط المرعب في القيم والأخلاق"، بشكل يجعلنا أمام مجتمع بقدر ما تحضر فيه مشاهد المواطنة والتضامن والمبادرات الرائدة، بقدر تتعايـش فيه مظاهر التمرد والانحراف والإجرام...

ما تناقلته العديد من المواقع والجرائد الإلكترونية ومن صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي، من حالة انفلات وفوضى عارمة ورشق للكسابة بالحجارة وسلبهم أرزاقهم بالقوق والعنف، ومن صور لأشخاص يهرولون يمينا وشمالا وهم يحملون ويجرون ما تحصلوا عليه من أكباش مسروقة، هي مشاهد تعطي الانطباع عن أن اللحظة خارج الزمن وخارج التمدن والتحضر وخارج سلطة القانون وخارج الدولة والمؤسسات وخارج القيم الوطنية والروحية والإنسانية، لحظة عصية على الفهم والإدراك، لا يمكن إدخالها إلا داخل زمرة "قانون الغاب" الذي لا يعترف بسلطة ولا بقانون وضعي ولا برحمة ولا بشفقة، إلا بسلطة الأمر الواقع والأنانية المفرطة والفوضى الكاسحة...

قد يقول قائل إن ما حدث من فوضى وترامي على حقوق الغير، هو نتيجة حتمية للفقر والبؤس، وقد يقول آخر إن الحادثة شكلت لحظة مجتمعية معبرة عن اللاعدالة الاجتماعية وعن التوزيع اللامتكافئ للثروات، وقد يقول ثالث إن ما وقع من سرقات غريبة للأكباش، هو مظهر من مظاهر الجائحة الكورونية التي ما زالت تعبث بالبلاد والعباد، وقد يقول رابع إن واقعة "الرحبة" هي صرخة للفقر والهشاشة والحرمان والإقصاء، ومرآة عاكسة للمغرب "العميق" و"المنسي"، ولن نبادر في التيهان بين هذه الرؤى والتحاليل، ولن نهدر الزمن والطاقة والجهد في محاولة للشرح أو التفسير أو التبرير، تاركين المجال مفتوحا أمام علماء النفس والاجتماع والتاريخ والجغرافيا والإجرام والقانون، لإيجاد تفسير معقول ومنطقي لواقعة تفرض دق ناقوس الخطر...

لكن في الآن ذاته، نرى أن ما حدث لا يمكن القبول به مهما بلغ التفسير مداه ومهما تجاوز التبرير منتهاه، لأن التمرد على القانون والاعتداء على الناس والترامي على حقوقهم وممتلكاتهم، هو أمر مرفوض من الناحية القانونية والدينية والأخلاقية والإنسانية، ولا يمكن القبول به أو التطبيع معه تحت أي سبب أو مبرر حتى لو كان باسم الفقر والهشاشة والحرمان، وتزداد مشروعية الرفض والإدانة، لارتباط ما حصل بمناسبة عيد الأضحى المبارك، وما تحمله من أبعاد ودلالات وعبر بالنسبة للمسلم في علاقته بخالقه، وبمفهوم المخالفة، فأن يكد فلاح صغير طيلة موسم فلاحي ويتحمل قساوة الطبيعة وصعوبات العيش، متطلعا لمناسبة العيد، من أجل بيع ما يتحوز به من أكبـاش، سعيا وراء مدخول مالي، يدبر به معيشه اليومي ويسعفه في الاستعداد لموسم فلاحي جديد، وفي نهاية المطاف، "يتسلط" عليه شرذمة من العابثين والمتهورين والمتهاونين والمتواكلين، ويسلبونه رزقه بالقوة، فهذا فعل لا يمكن إلا رفضه وإدانته وزجره.

من يبرر ما حدث باسم الفقر والحرمان، فالفقر لم يكن أبدا مبررا للسطو على الحقوق والترامي على الأرزاق والممتلكات، ولو أيدنا هذا الطرح، لكانت شرائح واسعة من المغاربة "الفقراء" من ذوي السوابق العدلية في سرقات الأغنام، ومن يربط حالة الانفلات بانعدام الأمن على مستوى "رحبة الأغنام"، نقول له إن "حمى الفوضى" كانت أكبر من أن تتحكم فيها دورية للشرطة أو للقوات المساعدة أو ممثلين عن السلطة المحلية أو الإدارة الترابية، وإن كان ما حدث لا يمنع من إثارة واقع أسواق الأغنام "الرحبات" وطرق تفويت صفقاتها وطرق تدبيرها وتأمينها، ومن يشرعن سرقة الأكباش باسم ارتفاع الأسعار، نقول إن أسواق المواشي (الرحبة) يتحكم فيها قانون العرض والطلب، فالكساب أو "الشناق" له كامل الحرية في تحديد الثمن الذي يناسبه أو يراه مناسبا، والمشتري له الحق في التفاوض أو "التشطار" بناء على إمكانياته المادية، كما له الحق في اقتناء الأضحية التي تتناسب وما يتحوز به من مبلغ مالي، وإذا ما بدت له الأثمنة فوق المتناول، بإمكانه أن يبحث عن رزقه (خروفه) في وجهة أخـرى، بل أكثر من ذلك، فيمكن له أن يتخلى عن شراء الأضحية إذا لم تكن له استطاعة مادية، فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها، في مناسبة دينية، يفترض أن يحضر فيها التضامن وتوزيع اللحوم على الفقراء والمحتاجين، أما اللجوء إلى خيار السرقة والنهب والترامي على حقوق وأرزاق الغير للتقرب إلى الله، فهذا "انزلاق خطير" لا يقبله دين ولا قانون ولا قيم ولا أخلاق، وأي تبرير له هو شرعنة لشريعة الغاب.

ما حدث من فوضى وانفلات وسرقات في "رحبة الحي الحسني" عشية عيد الأضحى، نضيف إليه ما شهدته بعض المدن من حوادث عنف وقتل في هذه الأيام المباركة، وما تم تسجيله في مدن أكادير وإنزكان ودشيرة، من اختراق حشود من المواطنين للتدابير الوقائية والاحترازية ذات الصلة بحالة الطوارئ الصحية، لمتابعة الاحتفال بتظاهرة "بيلماون" أو "بوجلود" ضاربين عرض الحائط ما صدر عن السلطان العمومية من قرارات وقائية واحترازية من ضمنها منع جميع التظاهرات الثقافية والفنية المستقطبة لجمهور غفير، وما تم تسجيله قبيل عيد الأضحى من عبث وفوضى في عدد من المحاور الطرقية عقب القرار المشترك لوزارتي الداخلية والصحة الذي منع السفر من وفي اتجاه عدد من المدن، في لحظة حضرت فيها الأنانية والمصلحة الخاصة، وغابت فيها مفردات الوقاية والاحتراز والالتزام والانضباط، كلها مشاهد من أخرى عاكسة لممارسات مقلقة، لا تميز بين الحلال والحرام والممكن واللاممكن والحق والواجب والمسؤولية والتراخي والمصلحة العامة والمصلحة الخاصة والقانون والانفلات والالتزام والتسيب...

ما حدث في الحي الحسني أو في مدن سوس أو في ليلة الهروب الكبير، هي ثقافة مجتمعية، لا يمكن فصلها عما يعتري الممارسة السياسية من عبث وتهور وفساد وانعدام المسؤولية ومن إقبال على الريع والمناصب والمكاسب، وما نعاينه في مواسم الانتخابات من فوضى وصراعات خفية ومعلنة، وما يتخلل تدبير الشأن العام والجهوي والمحلي من مظاهر الارتباك والاختلال والعبث في غياب تام لأي ربط للمسؤولية بالمحاسبة، وما أفرزته السياسات العمومية عبر سنوات من مشاهد الفقر والبؤس والهشاشة والتفاوتات السوسيومجالية، جعلت شرائح واسعة من المواطنين خارج نسق التنمية وأبعد ما يكون مما تتحقق خلال العقدين الأخيرين من منجزات ومكتسبات تنموية، وما يسجل من تراجع مقلق في أدوار الأحزاب السياسية التي اختزلت السياسة في الانتخابات وما تجود به الممارسة السياسية من كراس ومناصب ومسؤوليات، وعليه، فمن سرق "الحولي" عشية العيد، ومن خرج محتفلا بتظاهرة "بوجلود" ومن مارس الفوضى والانفلات في "ليلة الهروب الكبير"، حاله كحال من يمارس العبث في السياسة والأحزاب والانتخابات، ومن يلهث بحثا عن الريع ومن يتربص بالكراسي والمناصب، ومن يختلس المال العام بدون حسيب أو رقيب ومن يتفنن في حلب الوطن، كلهم "شركاء" في الإساءة للوطن وكلهم "مساهمون" فعليون، في طعن الوطن وحرمانه من فرص النهوض والرقي والازدهار...

وكل هذه الصور والمشاهد وغيرها كثير، تستدعي "دق ناقوس الخطر"، لأن المستقبل يبدو مقلقا، في ظل ما نعاينه من ارتفاع منسوب العبث والتهور والتراخي، ومما نتلمسه من تراجع خطير في القيم الوطنية والدينية والإنسانية، وحادثة مؤسفة من قبيل "سرقة الأكباش"، لا يمكن المرور عليها مرور الكرام أو تجاوزها، أو طيها بإيقاف بعض المشتبه فيهم وتقديمهم أمام النيابة العامة المختصة، فهي أكبر من حالة فوضى وانفلات في "رحبة أغنام"، وأكبر من جريمة سرقة تستحق ما يناسبها من زجر وعقاب، هي واقعة، بقدر ما تسائل الاختلالات التنموية واتساع نطاقات البؤس الاجتماعي وطرق تدبير الشأن الجهوي والمحلي، بقدر ما تسائل منظومة التربية والتكوين القائمة، كما تسائل مؤسسات التنشئة الاجتماعية التي تراجع دورها، والأحزاب السياسية التي لم تعد تضطلع بأدوارها التأطيرية والتربوية عدا "الانتخابات"...، هي درس جادت به جائحة "كورونا"، يستدعي أولا، استحضار وتقدير خطورة ممارسات من هذا القبيل على النظام العام وعلى التماسك المجتمعي، ويستدعي ثانيا، تجاوز سياسة "قولو العام زين" بقول الحقيقة بمسؤولية وتجرد ومصداقية وحياد، بعيدا عن ثقافة "الماكياج" ولغة الأرقام الكاذبة والخادعة، والرهان على بناء الإنسان لا البنيان وعلى البشر لا الحجر، وهذا لن يتحقق، إلا في ظل تعليم عصري ناجع عادل وفعال، يبني الإنسان/المواطن الذي يتحلى بقيم المواطنة والمسؤولية والانضباط والالتزام ونكران الذات والتضحية واستحضار المصلحة العامة.. فكفى من سياسة "التطبيل" و"التصفيق" والرقص على "قعدة" الأرقام الخادعة، فوجه الوطن سئم "الرتوشات" وضاق ذرعا من "مساحيق التجميل" التي لا يمكنها قطعا، إخفاء جروح الحقيقة المرة.. لك الله يا وطن..

 

عزيز لعويسي