تمكنت موسكو مبدئيا من إرساء بعض التفاهمات بين مصر وتركيا، وتمكنت اقله حتى الآن من ارجاء الصدام المحتمل على خلفية التدخل التركي القوي في الأزمة الليبية وظهور مؤشرات قوية وواضحة على تهديد الأمن القومي المصري ومصالحها الحيوية. وانطلقت موسكو بوساطة بهدف التوصل إلى صيغة تضمن استئناف المفاوضات السياسية، بعد القصف الذي استهدف قوات تركية في قاعدة (الوطية) الجوية، مع مواصلة القوات التابعة لحكومة الوفاق الوطني الاستعداد للهجوم على سرت بهدف السيطرة على المدينة التي تعتبر المحور الاستراتيجي في منطقة الهلال النفطي في الوقت الذي سبق أن حذرت القاهرة من محاولات السيطرة عليها عسكرياً.

وخلصت الوساطة إلى قرار مؤقت يرجئ التحركات العسكرية التي حضّرت لها تركيا والوفاق بشأن سرت، وبخاصة أن الغارات على قاعدة الوطية استهدفت تركيب أنظمة دفاع جوي، وقد مارست موسكو ضغوطاً قوية على الطرفين المصري والتركي لمنع أي احتكاك عسكري غير منضبط، الامر الذي ادى الى عدم اعادة التموضع التركي في الوطية نفسها.

وفي أي حال من الاحوال، تطرح هذه الوساطة الروسية السؤال المركزي حول قدرة موسكو على استمرار احتواء الوضع الليبي عبر ضبط عناصر التفجير فيه، وبخاصة المصري والتركي الحالي؟ وبالتالي ما هي وسائل التأثير المتبادلة على ضبط الأوضاع واستيعاب المصالح وعدم المس بالقضايا الحيوية لمجمل الأطراف على الساحة الليبية. في المبدأ ثمة مصلحة روسية قوية واستراتيجية في محاولة استيعاب الوضع الليبي بمختلف اوجهه وامتداداته، ذلك بالنظر لما تمثله ليبيا من مصلحة حيوية منذ الحقبة السوفياتية وحكم القذافي ومستوى العلاقات الاستراتيجية، على اعتبار ان ليبيا مدخلا لروسيا الى القارة الافريقية، والوضع الاستراتيجي الذي يمكن توفره لجهة جنوب أوروبا بمواجهة حلف الأطلسي، علاوة على المصالح التاريخية بين الطرفين وطريقة اخراج روسيا من ليبيا بعد الثورة ضد القذافي، إضافة الى نية العودة الروسية القوية الى الساحة الليبية. إضافة الى ذلك ثمة مصلحة روسية قوية لمجانبة مصر، لاسيما وان جهودا قوية بذلت خلال السنوات الماضية لإعادة ترتيب العلاقات الثنائية على قواعد مصالح استراتيجية متبادلة، ما يعني مصلحة موسكو في رعاية الوضع الليبي ومن يؤثر فيه عمليا.

في مقابل ذلك، ثمة تقاطع مصالح قوية أيضا بين تركيا وروسيا وبخاصة تلك القضايا ذات الصلة بالأزمة السورية، ما يعني ان ثمة مداراة روسية للسياسات الإقليمية التركية ومن بينها التدخل التركي المباشر في الأزمة الليبية، وعليه، من مصلحة روسيا محاولة إيجاد الوسائل الممكنة للجم أي توتر او تصعيد مصري تركي كبير يؤدي الى اعادة رسم سياسات إقليمية وازنة. وفي واقع الأمر ان التمدد التركي الملحوظ في القارة الافريقية يعتبر مدخلا لمواجهة السياسات الدولية المؤثرة كتلك العائدة لكل من موسكو وواشنطن وحتى بكين، الأمر الذي يقلل من فعالية أي دور يهدف الى ادارة ازمة او وساطة كتلك التي تجريها روسيا حاليا في الأزمة الليبية.

حتى الآن، ان حدود التصعيد ووسائله وأهدافه تعتبر مقبولة وقابلة للاحتواء، الا ان ابعاد التدخل التركي وخلفياته البعيدة المدى، ستجعل من المهام الروسية امرا معقدا، وغير قابل للاحتواء، باعتبار ان الاهداف التركية تتعلق بمسائل وقضايا حيوية شرق أوسطية تطال دولا في المنطقة وخارجها، وليس مستبعدا ان تواجه هذه الدول مجتمعة او منفردة للسياسات التركية في حل وصلت الى مستويات عالية التهديد.

لقد اتبعت تركيا مؤخرا سياسات اكبر بكثير من قدرتها على تنفيذها او حمايتها، وهي بمطلق الاحوال سياسات تدخلية توسعية تشي بمواجهات كبيرة، وهي لذلك انشأت بيئة خارجية متعددة بدءا من سوريا والعراق ولبنان، وصول الى القرن الافريقي وليبيا واليمن حاليا، وهي بذلك تفتح الباب واسعا امام صدامات واسعة في غير منطقة، ومن بينها الساحة الليبية ذات الحساسية المفرطة لمصر، التي لطالما اولت اهتماما خاصا بها في معرض علاقاتها العربية في القارة الافريقية، لذا من الصعب على موسكو ان تظل قادرة على إنجاح توسطها بين القاهرة وانقرة.

د. خليل حسين