قطع منابع الحياة عن مصر والسودان، قطع لنسع الحياة في الوطن العربي، معركة الوجود لا تتجزأ في جغرافيا تفصلها الحدود، ولا تفصلها تحديات تقطع طريقها نحو كل مدينة وقرية ذكرت في خارطة وطن أو لم تذكر، فالمخطط الفاقد لمكونات الوجود، يجردنا دون استثناء من حق الوجود، ويطوي سفر تاريخنا المدون منذ الأزل في كتب السماء التي خص بها الله هذه الأرض دون غيرها، ويغير العدو وجهة الكون دون أن يبقي لنا أثرا في حاضر لا إشراقة مستقبل فيه، ولا ذاكرة نعود فيها لماض عريق يذكرنا بوجود أزلي يندثر.

النيل دفق حياة ينقطع جريانه، أو يراد قطع جريانه في تخطيط شيطاني، يحصره في خزان مائي كبير، محتكرا موارده في قلب مجراه إثيوبيا، ليخنق مصر والسودان، ويسلما وجودهما المرهون بنهر أقيمت على ضفافه العربية أعرق الحضارات، ويضعهما خارج الوجود البشري.

مخطط نفذته إسرائيل بديلا لمشروع تحويل مياه النيل من مصر إلى فلسطين المحتلة عبر شق ست قنوات تمر تحت قناة السويس، رفض الرئيسان أنور السادات وحسني مبارك تنفيذه تحاشيا لردود فعل شعبية غاضبة ولما له من تداعيات خطيرة الأمن المائي القومي.

إزاء ذلك الرفض وجدت إسرائيل وسائل ضغط على مصر هدفها ضرب أمنها المائي الذي يؤثر على قواعد أمنها القومي، من خلال مد جسور العلاقة مع دول حوض النيل في شرق إفريقيا، وتغذية الخلاف بين أديس أبابا والقاهرة حول الحصص المائية، وتقديم الدراسات الإستراتيجية لإقامة أربعين سدا على ضفاف النيل الأزرق وتحويل مجراه في إثيوبيا بتمويل من البنك الدولي بما يؤدي إلى انحسار الحصص المائية لمصر والسودان.

وطدت إسرائيل علاقاتها مع إثيوبيا، وأرسلت لها الخبراء في مجال الطاقة والزراعة والثروات المائية، وقدمت لها التكنولوجيا وكل التقنيات اللازمة لتطوير سياستها المائية والتحكم بموارد نهر النيل، بما شجعها على التلاعب بالحصص المائية المخصصة لمصر والسودان.

عززت زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو إلى دول شرق إفريقيا (إثيوبيا وكينيا وأوغندا ورواندا) عام 2016 تحكم تل أبيب بدول حوض النيل هذه عبر دعمها التكنولوجي والمالي في مختلف المجالات، وتوجيه سياساتها المائية ضد مصر والسودان، وهذا ما يفسر فشل المفاوضات المصرية–الإثيوبية التي بدأت قبل 9 سنوات ووصولها إلى طريق مسدود.

سد النهضة الذي سيغير تاريخ النيل، خزان مائي كبير انتصب في إثيوبيا له القدرة على استيعاب مياه نهر النيل بكاملها، وقفت إسرائيل على تنفيذ مراحله حتى اكتماله، وتولت إدارته عبر شركاتها المتخصصة، فقد أسندت مهمة إدارة الطاقة الكهربائية وأمن حماية السد لشركات إسرائيلية كبرى، بدعم من رئيس الوزراء الإثيوبي هيلي ماريام ديسالين الذي عمل مهندسا مدنيا في شركة سوليل الإسرائيلية.

عادت مقولة رئيس الكيان الإسرائيلي الأسبق شمعون بيريز إلى الواجهة في حرب المياه الراهنة لمعرفة من يقف وراء "العدوان" الإثيوبي على مصر والسودان: "لن تنهض إفريقيا إلا بحل مشكلات المياه بالتكنولوجيا الإسرائيلية".

فهدف إسرائيل من تجميع مياه نهر النيل في خزان سد النهضة هو بيعها فيما بعد إلى مصر والسودان ولأي دولة تعاني من نقص المياه بعد ضمان اكتفائها المائي، إمعانا في ضرب ما تبقى من قواعد الأمن العربي برمته، وتغيير وجه الأرض التي طالما تغنت بأنهارها.


عبدالرحمن جعفر الكناني