سألني أحد الفضلاء من رجال مهنة المتاعب، أن أكتب مقالا أحث فيه منظمة الأمم المتحدة، على تخصيص يوم عالمي للقيم. أجبت الرجل الفاضل، بأنه لا يعقل ألا يكون هناك يوم عالمي، تحتفل فيه الأمم المتحدة بالقيم، لأنها العمود الفقري لبناء الإنسان والمجتمعات.

غلب عليّ الشك وعدم التصديق، فرحت أبحث عن الأيام التي تحتفل بها الأمم المتحدة، فوجدتها قد وصلت إلى مائة وثلاثة وسبعين يوما، خصصتها كلها لجميع أنواع المناسبات التي قد نتصورها، وأخرى لا يمكن أن تخطر على البال، كالاحتفال باليوم العالمي للبقول في 10 فبراير، والاحتفال باليوم العالمي للدراجة الهوائية في 3 يونيو، والاحتفال بفن الطبخ المستدام في 18 يونيو، والاحتفال باليوم الدولي للانقلاب الشمسي في 21 يونيو، والاحتفال باليوم العالمي للشطرنج في 20 يوليو، والاحتفال باليوم العالمي للطيور المهاجرة في 12 أكتوبر. بل إن الأمم المتحدة خصصت يوما للاحتفال بدورات المياه، وذلك في 19 نونبر. تحتفل الأمم المتحدة بكل هذه المناسبات، دون أن تهتم بتخصيص يوم للاحتفال بالقيم، وضرورة الحفاظ عليها، في سبيل بناء عالم أفضل.

حاولت أن أعرف شيئا عن "القيم" (ج قيمة)، فوجدت أن معناها اللغوي يعني الثبات والدوام والاستقرار والاعتدال. وأنها اصطلاحا، مجموعة المقاصد التي يسعى القوم إلى إحقاقها متى كان فيها صلاحهم، أو إلى نبذها متى كان فيها فسادهم. إنها ببساطة القواعد التي تقوم عليها الحياة الإنسانية، وتختلف بها عن الحياة الحيوانية، كما تختلف الحضارات بحسب تصورها لها. وعليه يمكن أن نعتبر القيم، موجهات للسلوك والعمل. وأن من خصائصها، أنها ترتبط بنفسية الإنسان ومشاعره، حيث تشمل بذلك الرغبات والميول والعواطف، التي تختلف من إنسان لآخر، ومن حضارة لأخرى. تتغير نتيجة تفاعل الإنسان مع بيئته، وتغيرات الوسط المحيط. ولا يمكنها أن تكون إلا مكتسبة من خلال البيئة.

يفهم من هذا الكلام الجميل، أن للقيم أهمية كبرى في حياة الفرد داخل المجتمعات؛ فهي تعمل على بناء شخصية الفرد، قوية ومتماسكة، وصاحبةِ مبدأ ثابت. ثم إنها تُكسِب الفرد، قوّةً على ضبط النفس، وتُحفّزه على العمل وتنفيذ النشاط بشكل متقن، إضافة إلى أنها تحميه من الوقوع في الخطأ والانحراف، فهي ذرع واقٍ له. ومع هذا وذاك، فهي توفر له الاستقرار والتوازن في الحياة الاجتماعية، وتجعله يحس بالمسؤولية. وبالقيم يكسب الفرد محبة الناس وثقتهم به. وأخيرا فإن القيم تساعد على تشكيل نمط عام للمجتمع، وقانون يراقب تحركاته. إنها ــ في كلمة مجملة ــ البوصلة التي توجه الأفراد إلى ما فيه صلاحهم العام.

وإذا كانت القيم بكل هذه السمات والأوصاف الحسنة، فمِن بابِ أولى، أن يُقام لها نصبٌ تذكاري بجوار تمثال الحرية بمانهاتن نيويورك، وليس فقط يوما عالميا تحتفي به منظمة الأمم المتحدة، التي ربما يكون القائمون عليها، قد رأوا أن القيم قد غادرت العالم دون رجعة.

إن من ينظر إلى واقع عالمنا اليوم، يصاب بالصدمة وخيبة الأمل، لما قد وصلنا إليه، من الانحطاط على مستوى القيم والأخلاق. فأوروبا التي أغدقت علينا من شعارات الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية، ما أسكرنا لأكثر من سبعة عقود خلت، أفقنا على وجهها الاستعماري البشع، وهي تضع مرة أخرى يدها، على خيرات المشرق والمغرب العربيين، وذلك بترسيخ الحكم الدكتاتوري، وإذكاء نيران الحروب والنزاعات بين الإخوة الأشقاء. لم تكن تلك الشعارات، سوى خدعة وذرًّا للرماد في العيون.

إنّ من اعتاد على السرقة والنهب بالقوة والتسلط، لا يمكنه أن يكون كريما مع الضعفاء. والضعفاء هم نحن، ولكن ليس من فقر ومن قلة الحاجة، بل من تركنا لقيمنا التي قام عليها ديننا الحنيف، الذي دعانا إلى الأخوة والتسامح، ونبذ العصبية والابتعاد عن الأنا وحب الذات، والعمل للصالح العام. أليست هي نفس القيم التي قامت عليها حضارة إسلامية أنارت أوروبا وأخرجتها من ظلماتها؟!

لقد أدرنا ظهورنا لثقافتنا العربية الإسلامية، وانسلخنا عن هويتنا، فكانت النتيجة، أن أصبحنا لا من هؤلاء ولا من هؤلاء، مُسخَة بين أمم العالم. إنه لا سبيل للرجوع إلى ركب الحضارة، إلا بإحياء القيم التي انبنت عليها ثقافتنا كعرب وأفارقة وأمازيغ أولا، وكمسلمين ثانية. وغناء ثقافتنا لن يكون إلا بتشبثنا بقيمنا، ولم نَرَ أبدا أمة تحضّرت اعتمادا على ثقافة الغير.

لقد صار العالم بفضل التكنولوجيا الرقمية، قرية صغيرة، وعوض أن يكون هذا الاختراع الرائع، أجمل فرصة للتواصل الإنساني ولقاح الحضارات وتبادل الأفكار والقيم، التي من الممكن أن ترفع من آدميتنا باعتبارنا أفضل المخلوقات؛ تحولت هذه التكنولوجيا الرقمية، إلى شبحٍ مخيف يتمدد يوما بعد يوم، ليسيطر على عقول الضعفاء ونفوسهم، ويتحكم في تصرفاتهم. تجرَّدنا من كل شيء، وأصبحنا مجرد مستهلكين للأشعة الزرقاء المنبعثة من هواتفنا الذكية، التي دمرت علاقاتنا الأُسريّة، وأفسدت فينا روح الإصلاح.

أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي، فضاءً ومرتعا لكل الرذائل: دعارة مقنعة بقناع الفن الطاهر العفيف، ومتاجرة بالدين، يقوم عليها سماسرة بعباءات، ولحى طويلة تراخت على الصدور، وهم أشبه إلى الغربان منهم إلى دعاة الإصلاح، وفيديوهات جرائم بشعة تذاع بأدق التفاصيل على المباشر. أصبح التشهير بالأعراض وإفشاء الأسرار على الهواء، من المحفزات التي تجلب أكبر عدد ممكن من المشاهدة.

إنها القيم الجديدة التي أنتجتها وسائل التواصل الاجتماعي، وفرضتها بقوة الإغراء والخدمات المتميزة، ومعها فَقَدَ المشاهد كل معاني القيم النبيلة والأخلاق الفاضلة. لم تعد له نخوة أو كرامة أو حتى مجرد الاستعداد المسبق للرفض أو الانتقاد. فارتاح بذلك أباطرة المال والأعمال من المحاسبة، وسَعِد الحكام في قصورهم بجهل المحكومين.

لكن مشيئة الله القادر المقتدر، تدخلت لتوقف غيّ الإنسان وعبثه وجبروته، وضرب له مثلا بأضعف مخلوق على وجه الأرض: فيروس لا يُرى صنعه الإنسان بحماقته، فتسلط على أبدان الناس وعلى أرواحهم يحصدها حصداً، دون أن يميز بين أمير وغفير، وبين غني وفقير، وبين عالم وجاهل. فتوقف العالم عن الحركة، واستكان الناس إلى بيوتهم، يراجعون أنفسهم. عرفوا أن المال والجاه والسلطان، لا يغني شيئا أمام عجز المرض ومصيبة الموت، وأن رصيد الإنسان وكنزه الذي لا يفنى هي قيَمُهُ التي نشأ عليها، وتربى وترعرع في أحضانها، وأن سعادته تكمن في إسعاد من حوله من أفراد مجتمعه. إن الحضارات والأمم، لا تُبنى بالإسمنت المسلح، والتكنولوجيا المتطورة والأرصدة الضخمة في البنوك، بل بالثقافة التي تُطَعِّمها القيم وتُغذّيها. وبالثقافات تبنى الحضارات، لأنها عنصر مؤثر في نموها واستمرارها، وبدونها تذهب وتندثر. وصدقت نبوءة أمير الشعراء أحمد شوقي حين قال:

وَإِنَّمَا الأُمَــمُ الأخْلاقُ ما بَقِيَتْ فَإِنْ هُمُ ذَهَبَتْ أخلاقُهُمْ ذَهَبُوا

 

عبد الإله الربون