1-في بيان علاقة الإستبداد بالحرية:

بَدَا بَيَان علاقة الإستبداد بالحرية على قاعدة غياب الديموقراطية بالمجتمع العربي(ومنه المغرب لامحالة)،أكبر تعقيد واجهته النّخبة السياسية العربية منذ الستينات بالتّحديد. وكان هذا الإشكال على نحو ما،الحلقة النّاظمة لآلية تفكير هذه النّخبة..بما هو فيصل(=الإشكال) بين الديموقراطية ذاتها والإستبداد كنقيض لهذه الأخيرة،الذي يُمكن أن يأخذ لبوسا ديموقراطيا...

وفي ظروف(قبلا وحتى الآن) تعزّزت فيها عملية تفكيك الإستعمار القديم والإستقطابات الدولية في ما عُرف بالحرب الباردة وسيادة المنظور المُسَفْيت(نسبة إلى الاتحاد السوفييتي سابقا) ل"الثورة"في أغلب دول العالم الثالث.لم تجد النّخبة العربية المذكورة من مخرج في سياق البحث عن نموذج نهضوي/سياسي سوى الأخذ بالنموذج المذكور،كنموذج وحيد ومخرج من كماشة النُّظم العسكرية والإستبدادية العربية ككل.والأحرى،فهو كنموذج مبشّر به،شكّل بهذه الصفة،مُؤشرا على سقوط نموذج الثورة،وتبجيله كنموذجا ثقافويا من أعلى.(للإستئناس أكثر يمكن مراجعة مقالة "استعادة التنوير"لمحمد جمال باروث-مجلة النهج-العدد21-السنة 2000).

وكان أن شكّل هذا المخرج بعد تبنيه(فكريا أولا) نوعا من تخطي وتجاوز فكر النهضة العربية السّابق،الذي كان هو الآخر شكل من قبل نَسَقا مقبولا ومعقولا(في ظرفيته).من حيث إشكالاته ومطارحاته التي اجتهد الرواد الأوائل في محاولة جعلها نَسَقا ممكنا لإيجاد مخارج لأزمات التنمية والتقدم والديموقراطية وغيرها...ولعلّ هذا التّخطي كان من المقتضيات الضرورية التي كان يفرضها تبنّي الأنماط الفكرية-السياسية "المُتمركسة"(المبنية على مفهوم القطيعة ولو نسبيا) التي طبعت المرحلة التاريخية إذاك وأغوت الكثيرين بايحاءاتها،وأوهامها أيضا. بالنظر إلى طبيعة الواقع العربي ودرجة تطوّر أبنيته آنذاك.

ولعل أهم المفارقات التي تم استدراكها مؤخرا كون الرّاديكاليات العربية(واليسارية منها بالتخصيص) وفيما هي غيّبت في انتقائية تامة،نهج الديموقراطية كفكر وأسلوب من مسلكياتها وبرامجها أيضا..ساهمت ببعض ممارساتها العامة في تزكية الوضع الذي أطرها هي ذاتها،بدل المساهمة في علاج إشكالاته،بل أكثر من هذا،فهي بتبخيسها لكل تفكير أو نظر ليبيرالي على علاته.ساهمت في إعاقة قيام ليبرالية عربية وإجهاض إرهاصاتها (إن وجدت) المُحتمل تطوّرها في ما بعد.

في وضع مثل هذا،ظل المثقف الليبرلي على مبدئيته إبان المرحلة المذكورة كلها وعلى أهمية دوره كذلك إلى حدود التّسعينات(لويس عوض نموذج واضح).مُنكمشا على ذاته مُهمّشا ونخبويا....واعتُبِر من لدن المثقف "العضوي" حامل لواء "العضوية الوهمية"،وبمبرِّرات ليست دائما جدية. ممالئا للسلطة ومنظرا لها. بموجب التّقاطع العفوي اللاإرادي لأهدافه مع أهداف هذه الأخيرة الرامية لتطويق أية حركية يسارية كانت أو"إسلاموية" أو غيرها.

والحال أن الفشالات والهزائم التي مُنيت بها الحركات والمنظمات السياسية الماركسية والقومية بالتحديد فيما بعد..في غفلة ولامبالاة جماهيرها من جهة. ونمو المجتمعات "الشعبوية" كنتيجة، وعلى نحوٍ مُفرط،عوضا عن المجتمعات "المدنية" أتى يُلخص بعضا من بؤس الرّاديكاليات العربية عموما.

2- في استعادة النموذج الليبرالي للديموقراطية:

لم يكن في نيتنا مما سبق تبجيل المثقف الليبرالي ومنحه أكثر مما يمنحه أياه واقعه ... غير أن المُرادالأساسي هو تبيان كون أفول النّسق الليبرالي العربي (ولو في بداياته الأولى الهشّة) كان إيذانا ببروز وتبلور نموذج "الثورة المذكور"

الذي أسس لا محالة لسلسلة من الأنظمة العسكرتارية العربية والإستبدادية،لا زال العالم العربي يئن حتى الآن تحت وطأة سلبياتها الخاصة والعامة.

يقع إشكال النموذج الليبيرالي الديموقراطي (المُظفر اليوم) في صلب إشكال تمثُّل مفاهيم التنوير/الحداثة/النّهضة في الفكر العربي، كمراحل مترادفة،وذلك كله في إطار الموجة الحالية المسمّاة بالموجة"الديموقراطية الثالثة"

ويقع في نفس النِّطاق واستتباعا،وضع شعار "حقوق المواطنة "جميعها في نفس الخانة،بما هي تكريس للفهم الليبرالي المُستعاد،بشكل كثيف للديموقراطية،في الإطار السياسي المحض وليس الإجتماعي.

وإذا كان النموذج الليبرالي هذا،وفي استعادته الكثيفة هذه،يتقاطع مع بعض أهداف السلطة الاستبدادية العربية القائمة اليوم،في معارضتها الراديكاليات "الاسلاموية "،وعلى قاعدة شعارات التنوير والحداثة وغيرها(المرفوضة سابقا)،فإنه يُغيّب بشكل مُفتعل،من حساباته وتنظيراته البئيسة،حركية المجتمع وأوالياتها الأساسية المتلخصة في:ما تشهده حركية التّفارق الطبقي من وثيرة حادّة أتت كمحصلة لاستتباعات المشروع البورجوازي الهجين بالوضع العربي(ومنه المغرب بالطبع) خصوصا بعدما تم إجهاض المشروع البورجوازي الوطني،صاحب الأولوية في انتهاج وتبنّي المشروع الليبرالي بعد الاستقلالات السياسية.

والثابت في ظل العولمة المتجددة(إذا جاز التعبير)أن رقعة الإستغلال بدول العالم الثالث(بما فيه المغرب دائما) قد توسعت بشكل متواترة،بحيث أصبحت تضم إضافة إلى الشرائح والطبقات الدنيا تلك الأخرى المتوسطة أو المحسوبة كذلك،وجعلتها موحدة في كفاح ديموقراطي عارم..وعليه فإن الغموض والتردد بعامة الذي يشوب تفكير بعض من النّخب الفكرية/السياسية الآن،مردّه،استنتاج مُبتذل ومكرور ،أساسه "هشاشة الوضع الطبقي".وليس خافيا طبعا،أن مثل هذا القول يُعفي أصحابه من الأسئلة الشائكة ويضع عنهم وِزر المسؤوليات المترتبة عنها،فيما يُسعفهم أكثر في معايشة الواقع وتوهّم إعادة هيكلته بشكل إرادوي بل وتقمّص زعامة تغييره!

3- تحصيل حاصل:

شكّل تبنّي شعاري التّنوير والحداثة على أهميتهما بالنسبة للرّاديكاليات العربية(السياسية بالتّخصيص) عنوانا لتراجعها وخيبتها في النفاذ إلى الواقع قبل العمل على تغييره ،فيما هو شكّل أيضا عنوانا لتواريها عن المشهد السياسي،بعد أن حلّت مكانها "الراديكاليات الإسلاموية "...وليس التواري هذا،ذو صبغة سياسية فقط،بل هو تعبير أيضا عن أزمة فكرية-ثقافية تمرّ منها هذه الراديكاليات،تُعبّر عن ذاتها مرة أخرى،في كيفية تأصيل ذاتها بالواقع،وكيفية التّعايش معه في غير غُرْبة،والبحث عن مرجعية/هوية ثابتة تُمكنها من مواكبة الواقع بالموازاة مع سيرورة تطوره الحثيت.



 عبد الله راكز