فالأزمة الاقتصادية تشكل بدون شك لحظة اختناق نمط الإنتاج القائم وتوقف قدرته على إعادة إنتاج نفسه من خلال عجزه عن الحفاظ على استمرار تطور قوى الإنتاج الممكنة من جهة والمحافظة على استمرار استقرار علاقات الإنتاج السائدة المختلة بين القوى الطبقية المهيمنة والطبقات المنتجة المضطهدة من جهة أخرى. ويبدو من خلال هذا التعريف المبسط للازمة الاقتصادية مدى تعقد الروابط الاجتماعية التي تشكل نمط الإنتاج القائم والتي تؤدي إلى انفجار الأزمة وبالتالي إلى انفتاح الطريق أمام تطورات اجتماعية ثورية قد تكتفي بإحداث تغييرات شكلية في آليات اشتغال نمط الإنتاج القائم، أو قد تصل درجة القضاء على هذا النمط بكامله وحلول نمط إنتاج مختلف على أسس قوى إنتاج وعلاقات إنتاج جديدة.

أولا: في البدء كان الانقسام الطبقي والملكية الخاصة مصدرا لكل الأزمات الاجتماعية اللاحقة:

علينا أن نتساءل هنا، من أجل تفكيك طبيعة الأزمات الاقتصادية لنمط الإنتاج الرأسمالي المعولم اليوم، عن اللحظة التاريخية التي أنتجت علاقات التفاوت الطبقي والملكية الخاصة والعمل المأجور التي يسود بواسطتها نمط الإنتاج الرأسمالي اليوم، فهل هي لحظة إنسانية طبيعية أم هي وضعية غير طبيعية ترتبت نتيجة تحولات اجتماعية دياليكتيكية معينة؟

سنركز إجابتنا في هذا الإطار على ثلاث نقاط متوالية كما يلي:

التناقض الطبقي الموروث منذ 12 ألف سنة قبل الميلاد ودور الملكية الخاصة في استدامة هذا التناقض.

شكل صعود وانهيار الحضارات الطبقية وأنماط الإنتاج المتعاقبة حسب المادية التاريخية. مرحلتي صعود وانهيار نمط الإنتاج الرأسمالي.

1 – سيرورة تشكل الطبقات والملكية الخاصة والدول:

هناك الكثير من علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا الذين عملوا من خلال دراساتهم على رسم ملامح الحياة الاجتماعية في ظل الجماعات البدائية والتي تم تقسيمها إلى مراحل متعاقبة، خاصة مرحلتي ما قبل التاريخ (ما يسمى بمرحلة الباليوليتيك) ثم المرحلة التاريخية التي تبدأ منذ حوالي 12 ألف سنة قبل الميلاد، وقد واكبت هذه المرحلة التاريخية بعدة تحولات اقتصادية واجتماعية حتمت هذه المرحلة وتعرف عند علماء الاجتماع بالعصر الحجري الأعلى أو ما يسمى بالعصر النيوليتي والذي يمتد منذ حوالي 12 ألف سنة إلى حوالي 3 ألاف سنة قبل الميلاد. وهو العصر الذي حدثت فيه ما سمى بالثورة الزراعية، فاكتشاف الزراعة وتشكيل خزانات كبرى للإنتاج الزراعي والمواد الغذائية كان مدخلا لظهور الطبقات والملكية الخاصة والإشكال الجنينية للدولة ووسيلة لاستغلال الأقوياء للضعفاء، بل شكلت هذه الفترة منطلق الصراعات والحروب التي لم تكن قائمة في عصر ما قبل التاريخ. فالطبيعة الإنسانية تختلف حسب الظروف الاجتماعية المادية للواقع الإنساني. استند إذن الانقسام الإنساني في العصر النيوليتي وظهور الطبقات والدولة على أساس الملكية الخاصة للخزانات الغذائية التي وفرتها الثورة الزراعية، أي ملكية الأقوياء للمزارع ولخزانات المواد الغذائية مما جعلهم من جهة يتمكنون من تسخير قوة عمل افراد آخرين في الإنتاج لإعادة تشكيل تلك الخزانات وفي حماية الممتلكات الخاصة وحتى في تشكيل قوة عسكرية للإغارة على الجماعات الأخرى والسيطرة عليهم وتشغيلهم كعبيد في الإنتاج الزراعي، والعكس صحيح أي إغارة الجماعات التي لا تتوفر على مصادر الغذاء على مواقع تلك الخزانات وسلبها.

قبل العصر النيوليتي عاش الإنسان البدائي لآلاف السنين في عصر ما قبل التاريخ الباليوليتي في جماعات متضامنة لا يعلوا أفرادها رتبة بعضها عن بعض، ويقوم أساس بقائها على استعمال على قوة عمل الجماعات في القنص والصيد وقطف الثمار وهي المصادر الأساسية لإعادة إنتاج الحياة، حيث كانت قوة عمل الإنسان

جماعية وفي هذا الإطار صنع الإنسان أدواته في الصيد والقنص وقطف الثمار وحماية النفس من أخطار الحيوانات المتوحشة.

ويمكن العودة الى مصادر متخصصة عديدة في هذا المجال من بينها كتب كل من فردريك انجليز "اصل العائلة والملكية الخاصة والدولة" وموريس مورغان "المجتمع القديم" واندري لوروا كوران "الإشارة والكلام" للتوسع في تطور أوضاع حياة الإنسان البدائي قبل ظهور الملكية الخاصة والطبقات والدولة. فقوة العمل كانت توظف بشكل جماعي لإعادة إنتاج الحياة وحيت كان الجميع يستفيد من ثمار هذا الإنتاج.

لكن منذ ظهور الإنتاج الزراعي والملكية الخاصة والتفاوت الطبقي بدأ الأقوياء يستهدفون السيطرة على قوة العمل الإنساني لإخضاعها للاستغلال أي أن الأقوياء بدئوا يستغلون قوة عمل الضعفاء عبر العنف لخدمة مصالحهم الخاصة وخاصة تطوير ومراكمة خزانات الأغذية وحراستها. وعلى أساس تملك قوة عمل الغير عبر الاستعباد وتوظيفها في تشييد مجد الطبقات الحاكمة تشكلت الدول والحضارات القديمة في حوض البحر الأبيض المتوسط وبلاد فارس والهند والصين، ... يتبع.



دغوغي عمر