دخلت إيران على خط المواجهة الأميركية – الصينية لتقدّم نفسها ذخيرةً لبكين أولاً إنقاذاً لنفسها من العزلة والعقوبات الأميركية التي تخنق النظام في طهران، وثانياً، كي تبدو الجمهورية الإسلامية الإيرانية ذات وزنٍ في موازين العملاقين الأميركي والصيني، وذلك بموجب شبه – تحالف اقتصادي وعسكري يقدّم خيرات إيران للشركات الصينية ويُعطي الصين امتيازات عسكرية وأمنية كبيرة لمدّة 25 سنة، ويلاقي معارضة حادة داخل إيران.

القيادات الإيرانية تبحث عن كل شريك ممكن لتفكّ العزلة عنها، لذلك انها توطّد علاقاتها مع تركيا سيما في ساحات المغامرة التركية في الجغرافيا العربية، بالذات في ليبيا، كما في العراق وسوريا عند الحاجة. هذا إقليمياً. دوليّاً، ان الأمر أكثر تعقيداً ليس فقط لأن العقوبات الأميركية تتربّص للشركات والبنوك الصينية والروسية والأوروبية وغيرها في بقية أنحاء العالم حالما تكسر طوق العقوبات على إيران، وإنما أيضاً لأن المصالح الجغرافية – السياسية للدول الكبرى تتعدّى الاعتبارات الإيرانية مهما بالغت طهران وحلفاؤها في رسم صورة مغايرة.

السفير راين كروكر

الرأي السائد في هذا المنعطف هو أن الاتفاقية الصينية – الإيرانية رمزية أكثر ممّا هي استراتيجية، أقلّه حتى الآن. الديبلوماسي الأميركي المخضرم، نائب وزير الخارجية الأسبق لشؤون الشرق الأدنى، السفير راين كروكر، قال ان هذه الاتفاقية "مُبالغ فيها" لأنها "لا تنطوي على إجراءات ملموسة" concrete action باستثناء المساعدات الاقتصادية لإيران التي "دمّرت العقوبات اقتصادها" وبالتالي قد تقوم الصين "بمد حبل الإنقاذ". ولكن، أضاف كروكر، إذا فعلت الصين ذلك "عليها ان تحسب حساباتها بكثير من الحذر" وأن "تقدّر الحدود التي تدفع اليها" إدارة ترامب - وعواقبها.ايرينا زفياغيلسكايا، مديرة مركز دراسات الشرق الأوسط في معهد بريماكوف وأستاذة في معهد موسكو الحكومي للعلاقات الدولية التابع لوزارة الخارجية الروسية، ترى أن "الصين قادرة اليوم على الصمود في وجه أيّة عقوبات وهي لا تحتاج روسيا في ذلك. وهذا مُهمّ جداً لأن الكابوس في واشنطن، حسب مفهومي، هو أن تتَّحد الصين وروسيا ضد الولايات المتحدة. إنما هذا غير صحيح. فنحن حلفاء، إنما في الوقت نفسه مصالحنا مختلفة. وهذا واضح للجميع. لذلك، عندما نتحدّث عن الصين، ليكن الحديث عن الصين، وليس عن الصين زائد روسيا. فهاتان مسألتان مختلفتان". لم يكن فقط لافتاً ما قالته زفياغيلسكايا وإنما زادت عليه القهقهة عندما سُئلت عن إمكانية قيام محور صيني – روسي – إيراني وقالت ان بعض المحاور في الشرق الأوسط حقيقي وبعضها وهمي، "وهذا وهمي". جاء كلامها وكلام كروكر أثناء الطاولة المستديرة الافتراضية الحادية عشرة لقمة بيروت انستيتوت في أبو ظبي شارك فيها أيضاً وزير خارجية ليبيا الأسبق محمد الدايري، ومؤسسة منتدى الدفاع والأمن في لندن اللايدي أولغا ميتلاند.

العلاقات الأميركية – الصينية تزداد توتّراً في الآونة الأخيرة على كافّة الأصعدة بما في ذلك في بحر جنوب الصين، اضافة الى الصعيد التجاري. وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو اتّهم الصين باستخدام الترهيب لتقويض حقوق دول جنوب شرق آسيا – الأمر الذي رفضته الصين. المدير الجديد لمكتب التحقيق الفدرالي (أف بي آي) كريستوفر راي شنَّ الأسبوع الماضي هجوماً شرساً على الصين وقال ان الحزب الشيوعي الصيني الحاكم يسعى ليأخذ مكان الولايات المتحدة، الدولة العظمى الوحيدة في العالم، معتبراً الصين "أخطر نظام يهدّد أمن" الولايات المتحدة. راي اتّهم الصين بـ"السرقة" واعتبر ان "أكبر تهديد طويل الأجل لمعلومات أمّتنا وملكيّتها الفكرية وحيويّتنا الاقتصادية، هو التجسس الاقتصادي من قِبَل الصين. انه تهديد لأمننا الاقتصادي، وبالتالي لأمننا القومي".

ازدادت وتيرة التوتر بسبب فرض السلطات الشيوعية في بكين قانون الأمن القومي على هونغ كونغ وما تبعه من عقوبات أميركية بما فيها مصرفية وعلى موظّفين من شركة "هواوي". الصين توعّدت واشنطن بالرد بعقوبات على أشخاص وكيانات أميركية.

واشنطن بحسب المصادر، استعدّت لمزيد من العقوبات بما في ذلك ضرب حصار على البنوك الصينية في حال نفّذت الصين الإجراءات المدوّنة في الاتفاقية مع إيران. فإيران في حاجة ماسّة للبنوك الصينية للقيام بعمليات تجارية ونقدية. لكن مثل هذه العمليات خطيرة على الصين التي لا تريد مواجهة مفتوحة الأفق مع الولايات المتحدة. وبالتالي، الأرجح أنها ستكتفي الآن برمزية الاتفاقية مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية في هذا المنعطف لأن اتخاذ الإجراءات الملموسة بموجبها سيكون مغامرة خطيرة مع الولايات المتحدة تريد الصين تجنّبها.

ثم ان للصين مصالح ضخمة مع الدول الخليجية العربية، بالذات السعودية والإمارات، ولا يوجد مؤشّر على استعداد الصين رمي هذه المصالح في قاع العلاقة مع إيران أو مع حزب الله في لبنان، كما يتوهّم الحزب وأدواته وحلفاؤه. كذلك، ان للصين علاقات متطوّرة مع إسرائيل، بالذات في مجال التكنولوجيا المهم جداً لبكين، مما سيشكّل عائقاً أمام قيام المحور الوهمي بين الصين وحزب الله حتى وان حدث ذلك تحت غطاء حكومة حسّان دياب التابعة لحزب الله.

فالصين تريد استخدام لبنان لتسويق المصالح الصينية وهي متشوّقة للانخراط في النظام المالي والمصرفي في لبنان، كما أكّدت مصادر مطّلعة، لكنها ستُبقي على أوراقها المستورة دوماً. وليس مستبعداً أن تكون الناحية المصرفيّة المستورة عامل الارتياح السرّي لدى "حزب الله" في رهانه على الصين. إنما الولايات المتحدة تتربّص للاثنين. والأمور أكثر تعقيداً ممّا يتم تسويقه بمغالاة.

أولغا ميتلاند

هناك شطر من الرأي العام العالمي الذي يعتقد ان الصين واقع لا بد منه والتأقلم معه بغض النظر عمّا تفعله الصين، سلباً أو إيجاباً، إيماناً منه أن "نموذج أو قالب template of power القوة قد انحرف" ضد الولايات المتحدة لصالح الصين، بحسب أولغا ميتلاند التي تريد الانخراط مع الصين لأن "لا خيار آخر" سوى الانخراط. هذا الرأي لا يوافق عليه نصف البريطانيين، على الأقل. وكذلك الأمر لدى الأميركيين والأوروبيين.

وزير خارجية ليبيا الأسبق محمد الدايري

ليت الصين تكون خيراً لا بد منه، وليس شرّاً يجب التعايش معه خوفاً منه. الفيتو الروسية – الصينية المزدوجة على مشاريع قرارات في شأن سوريا، آخرها حول مشروع قرار مساعدات إنسانية، يلقى الشكوك العربية. وكما قال محمد الدايري "على ضوء ذلك، لا يفاجئني أن تسعى الصين وراء علاقات أعمق مع إيران". إنما ما يقلقه هو غض الصين نظرها عن التصرفات الإيرانية في الجغرافيا العربية، بما في ذلك في ليبيا، حيث "تنمو علاقة إيران بتركيا"، وينمو معها الدعم الإيراني للمغامرات التركية. فتركيا "تعمّق نفوذها في ليبيا" وهي "ليست مكوّناً أمنياً" هناك.

رأيه ان مصر والجزائر تتقاربان في الرأي والاستراتيجية نحو ليبيا، وكذلك المسؤولون في تونس خارج بوتقة راشد الغنّوشي عرّاب "الاخوان المسلمين" في تونس. توقّعاته هي أن تقع "مواجهة stand off بين مصر وتركيا في الأيام المقبلة"، في شأن ليبيا. تقويمه ان روسيا وتركيا "تنسّقان الى حد ما" في ليبيا إنما "اليد العليا هي لتركيا".

ايرينا زفياغيلسكايا

ايرينا زفياغيلسكايا تعمّدت التشديد على "اللغة المشتركة حول مختلف المسائل الصعبة جداً" بين الرئيسين التركي رجب طيّب أردوغان والروسي فلاديمير بوتين ودعت الى "الاعتدال أكثر والتحلّي بالواقعية". كان لافتاً قولها ان قائد "الجيش الليبي الحر" خليفة حفتر "هو الذي أراد أن يبرهن ان روسيا تدعمه – الأمر غير الصحيح – مع ان روسيا تتعاطف معه"، في ضرب من ضروب "البروباغندا لإظهار قوّته". وقالت ان حفتر "لاعب قوي" إنما مدى عدم الاستغناء عنه أو الاستغناء عنه "يعتمد على النظرة الى المسألة".

رأي أندريه فيدوروف، نائب وزير الخارجية الروسي الأسبق يختلف معتبراً حفتر "جزءاً اجباريّاً obligatory من أيّة صفقة وقف النار" ومؤكّداً رفض موسكو القاطع لطروحات أردوغان بأن تتم الصفقة بلا حفتر، ورفضها اعتباره قابلاً للاستغناء عنه، سيما إذا دخلت القوات المصرية الأراضي الليبية.

قد تكون ليبيا مهمّة للصين سيما وأنها بوّابة الى أفريقيا المهمّة للصين تقليدياً، لكن بكين وموسكو تنسّقان أولوياتهما وأمكنة النفوذ كما هوامش التنسيق والتوافق على القيادة. ليبيا لروسيا في اطار هذه المعادلة بين الصين وروسيا.

بوصلة المواجهات والتفاهمات الروسية – التركية تتحرّك ابرتها وفق التطوّرات الميدانية ومزاج القائدين. أمّا إيران فإنها تلهث وراء شريك اقليمي هنا وآخر دولي هناك هَرباً من العقوبات الأميركية. لذلك ان القيادة الإيرانية على أهبة الاستعداد لتقديم خيرات إيران للصين بلا تحفّظ طالما تساعدها القيادة الصينية على البقاء في السلطة.