حرب التأويل أخطر من حرب التنزيل، والإخوان في العدالة والتنمية المتمسكون بالترات والقادمون إلى الحكومة من محاضن الدعوة والدروشة أدرى بخطورة الموضوع، لأن التأويل هو أهم ما يتبقى بعد اكتمال النص، وكلما اتخذ التأويل منحى التغلب كلما كان قاتلا، وكلما انبنى التأويل على مرتكزات خاطئة كلما أصبح التطبيق على أرض الواقع أعوجا، ويعرف الإخوان أن التأويل في التاريخ الإسلامي نحا في اتجاه الحروب غير المنتهية بل اعتمد أحيانا وسائل السلطة في محاولة لتركيع المخالفين والتنزيل هو اكتمال النص وتحوله من القوة إلى الفعل، وبعد أن يكون مجرد قيم وتفكير يتحول إلى نصوص، وفي حالة الدستور هو نص جاء ليتم تطبيقه وتنفيذه، وتمت الإشارة إلى اختيار الديمقراطية كلازمة للتأويل.

 

غير أن الإخوان في العدالة والتنمية فهموا التأويل الديمقراطي هو التغلب عن طريق الأغلبية العددية والتشبث الحرفي بالنصوص وظهر عنصر التغلب من خلال دفاتر التحملات الخاصة بشركة صورياد القناة الثانية، وهي التي أثارت حولها جدلا واسعا، وكشفت حقيقة الحزب الإسلامي الذي ليس سوى أداة تنفيذية لحركة التوحيد والإصلاح التي يخطئ الكثيرون في تسميتها بالدراع الدعوي للحزب، مع العلم أنها هي المتحكم في مسار الوزراء، أي أن الحركة التي وصلت اليوم إلى الحكومة عن طريق الحزب، لقد كشفت الدفاتر عن جوهر الطغيان الديمقراطي، وهو أخطر أنواع الطغيان والتسلط لأنه يعتمد على سلطة التفويض الشعبي ولجأ أولاد العدالة والتنمية سواء في التأسيس للدفاتر أو فرضها والنقاش حولها إلى بنود الدستور قصد الاحتماء بحماها، وخصوصا تلك البنود التي تعتبر مرجعيات لا يجوز فيها اعتماد الرؤية الواحدة أو تصور طرف واحد لها.

 

فين النص وتطبيقه على أرض الواقع مسافات واسعة. وكي يتم نقل النص من لغة مكتوبة إلى فعل وعمل على أرض الواقع نحتاج إلى التأويل. والتأويل بنظرنا لا ينفصل عن ظروف إنتاج النص. والنص الدستوري المؤطر للعمل الحكومي وغيره نص تم إنجازه عن طريق تدبيرات وتوافقات بين مكونات المجتمع وبالتالي لا سبيل إلى تأويله خارج منطق التدبيرات والتوافقات المجتمعية فلماذا يتشبث الخلفي بالنصوص التي تخدم مشروعه؟ ألم يتخلص بعد من انتمائه لحركة دعوية وهابية منغلقة؟ ما هي المسافة التي اتخذها باعتباره وزيرا عن باقي مكونات الحركة التي تربى في أحضانها؟ وهل لرؤيته الانغلاقية علاقة بانتمائه لنوع من التفكير التقليدي حتى وهو يلبس جلباب المعاصرة والعقلانية؟

 

يقول الكاتب السعوي محمد بن علي المحمود " من يتعود استقبال النص الديني على أرضية عقلانية زاخرة بفرضيات التأويل ، سيستقبل النص السياسي (النص السياسي قد يكون قولا، وقد يكون فعلا أو حدثا) على ذات الأرضية ، وسيقيم مع النص السياسي ذات الحوار الذي يقيمه مع النص الديني ، وستنداح فضاءات التأويل لخيارات أكثر تنوعا على مستويات إبداع التصور ، ومن ثم على مستويات إبداع الفعل . وبقدر ما يكون العقل حاضرا هنا، سيكون حاضرا هناك . وحضور العقل هنا وهناك، هو بالضرورة تجسيد لحضور الحرية، والتي تعني بدورها حضور الإنسان  وليس بدعاً تلك الحرب الشعواء التي شنتها التقليدية عبر تاريخها الطويل على التأويل، لأن التأويل كان يعني الاحتفاظ بحق العقل في ممارسة استقلاليته في التعاطي مع النص ومع الواقع ، ما يعني إضفاء فاعليه تحررية تتعدد وتتنوع بتعدد وتنوع العقول ، أي ، في النهاية، تتحرر - كمّاً ونوعاً - بأقصى ما يمتلكه أصحاب هذه العقول من إمكانات وقدرات".

 

وبناء عليه فإن من تعود أن يستقبل النص الديني على أرضية منغلقة وأحادية سيستقبل النص السياسي بالطريقة ذاتها فلما سئل الخلفي عن الاتهام الموجه لحزبه بكونه يريد "أسلمة" القناة الثانية قال إنه لا يفهم مثل هذا الكلام فإن الدستور ينص على أن المغرب دولة إسلامية، وهذا التواء خطير يفر من السؤال الجوهري إلى التلبيس على المتلقي فإسلامية الدولة كما يفهم الكثير من المغاربة مفارقة لفهم أولاد العدالة والتنمية وبالتالي فإن السؤال عن الأسلمة كان القصد منه السؤال عن "الخونجة"، وإسلامية الدولة مفهوم اختلافي، فالدولة الإسلامية قائمة في المغرب في نظر الكثيرين وهي مرتجى وهدف الحركات الإسلامية على اختلاف في تصور الدولة الإسلامية والدستور جاء بمادة مكثفة تضمن نوعا من التأويل الديمقراطي حيث ينص في ديباجته على أن "المملكة المغربية، وفاء لاختيارها الذي لا رجعة فيه، في بناء دولة ديمقراطية يسودها الحق والقانون، تواصل إقامة مؤسسات دولة حديثة، مرتكزاتها المشاركة والتعددية والحكامة الجيدة، وإرساء دعائم مجتمع متضامن، يتمتع فيه الجميع بالأمن والحرية والكرامة والمساواة، وتكافؤ الفرص، والعدالة الاجتماعية، ومقومات العيش الكريم، في نطاق التلازم بين حقوق وواجبات المواطنة.

 

المملكة المغربية دولة إسلامية ذات سيادة كاملة، متشبثة بوحدتها الوطنية والترابية، وبصيانة تلاحم مقومات هويتها الوطنية، الموحدة بانصهار كل مكوناتها، العربية - الإسلامية، والأمازيغية، والصحراوية الحسانية، والغنية بروافدها الإفريقية والأندلسية والعبرية والمتوسطية. كما أن الهوية المغربية تتميز بتبوء الدين الإسلامي مكانة الصدارة فيها، وذلك في ظل تشبث الشعب المغربي بقيم الانفتاح والاعتدال والتسامح والحوار، والتفاهم المتبادل بين الثقافات والحضارات الإنسانية جمعاء" هذه الكثافة في اللغة وتركيز المفاهيم يجعل من أي تأويل أحادي مجانبا للصواب ومنحرفا عن التأويل الديمقراطي. والخلفي، ومن ورائه بنكيران ورهطه، يسعى هذا المسعى من خلال اعتماد أربع أساليب

:

أولا: التطبيق الحرفي لنصوص الدستور وحتى لبعض الأنظمة القانونية، ومع الحرص على هذا التطبيق الحرفي هناك تأويل أحادي في فهم إسلامية الدولة وفي فهم التعدد اللغوي. وهذا لا مجال لا يمكن فيه الانفراد بتطبيق بنود الدستور لأنه مجال مبني على الكثافة ومن تم التعدد، وكان لزاما الخضوع لمنطق التوافقات والتدبيرات. فالدولة الإسلامية والهوية مفاهيم ليس لها معنى واحد وبالتالي لا يمكن اعتماد فهم خاص وتأويل خاص بشأنها.

 

ثانيا: اعتماد منطق الأغلبية العددية، فلأول مرة نسمع أن الذين انتفضوا ضد دفاتر التحملات هم فقط موظفون معينون في حين أن الوزير هو ينتمي لحكومة تم تشكيلها على أساس نتائج الانتخابات، وهنا المغالطة وجذرها وليس الغلط. فنتائج الانتخابات ليست تفويضا مطلقا، والانتخابات ليست إفرازا للأصلح والأقوى وبالنتيجة فهي التي أوصلت أدولف هتلر لمستشارية ألمانيا إن نتائج الانتخابات محكومة بما هو نسبي غير مطلق. فعدد الذين صوتوا على حزب العدالة والتنمية أقل من عدد رواد بعض المهرجانات الفنية وأقل بكثير من مشاهدي بعض القنوات والبرامج يوميا. وإذا كانت الأغلبية العددية نسبية فهي لا تمثل كافة الشرائح ولا يمكن أن نجعلها أداة للاستقواء على الآخرين.

 

ثالثا: التهديد بحرب الشوارع، ونستعمل هنا مفهوم حرب بمعناها الواسع. فالعدالة والتنمية أخرج الاحتياطي الحزبي لمواجهة المخالفين. فقد أعلن أحد قادة الحزب أنهم سيخرجون للشارع للدفاع عن دفاتر التحملات. لا نفهم كيف يستعمل حزب في الحكومة لغة الشارع؟ فمفروض في حزب يترأس الحكومة أن يخفف من الاحتجاجات في الشارع لا أن يساهم فيها. فحزب العدالة غير مسموح له أخلاقيا بالخروج للشارع حتى وهو في المعارضة لأنه يمتلك منبرا برلمانيا للاحتجاج فكيف به وهو يترأس الحكومة. لا يمكن أن نستنتج من التهديد بالخروج إلى الشارع إلا شيئا واحدا مفاده إما أن تتركوا الحزب في حاله يفعل ما يشاء وإما أن نخرب الدنيا عليكم ونقوضها فوق رؤوسكم.

 

رابعا: اعتبار المخالف مخربا. فاللغة التي اعتمدها حزب العدالة والتنمية تجاه المخالفين بئيسة تحيل على الفكر الواحد والإقصائي، فكل من عارض "كنانيش" الخلفي المدرسية فهو من حزب فرنسا النصراني أو من جيوب المقاومة وختاما فالتأويل إما أن يتم عن طريق توافقات وتدبيرات مشتركة تراعي التعدد والتنوع وإما أن يكون قاتلا ويتحول من أداة لتطبيق بنود الدستور إلى حرب تتبنى تأويلات مختلفة.