لقد تابع الجميع وخصوصا المختصين في المجال التربوي والتعليمي النقاش الذي واكب امتحانات مادة الرياضيات على مستوى الاختبارات الإشهادية لمحطة الباكلوريا، والذي يجري في توقيت وأجواء استثنائية بفعل جائحة كورونا. ولقد اختلفت الروايات والرؤى بين المتعلمين وأولياء أمورهم وبين الأساتذة والمختصين حول الكيفية التي وضعت بها الأسئلة وحول التغيير المفاجئ في نمط تمارين الاختبار. وفي ظل حساسية الموضوع كان لابد أن يتسلل المتطفلون ليدلون بدلائهم المتهتكة من أجل إشباع هلوساتهم.

بيد أن الموضوع ليس بالبساطة التي يعتقد البعض وذلك نظرا لتشعبه وارتباطه بعدة مجالات وحقول ولأنه يهم عنصرا حاسما داخل المنهاج التعليمي ألا وهو التقويم التربوي مادام أي خلل يعتريه يقتضي وبالضرورة مساءلة منظومة ككل.

المتعلم لا يوجد خارج السياق المجتعي،فالطابع الغالب والفلسفة السائدة هي فلسفة الربح السريع والاغتناء اللامشروع والاستهلاك الأعمى دون قراءة حتى تاريخ صلاحية المنتوج . زد على ذلك سيطرة التفاهة والضحالة على حساب الاستحقاق والمردودية والمجهود. الشئ الذي رسخ قناعات شاذة لدى أفراد المجتمع خصوصا السكان الأولون لمواقع التواصل الاجتماعي المشكلة من الطبقة المراهقة التي تتأثر كثيرا بثقافة الصورة وتنبهر بالأضواء والنجومية الفقاعية، فسادت روح الاتكالية وانطفأت شمعة رفع التحدي وعم الخمول جميع الشرايين والأوردة ،فتبخر الإبداع واندحرت المبادرة وباتت اللغة السائدة هي لغة التباكي والانهزامية المطلقة .

وفي ظل هذا المناخ غير السليم ،تتموقع المدرسة بمناعة ضعيفة وبأقل جاذبية ممكنة بفعل تراكم خيبات الإصلاح ، مما نجم عنه الإنتصار للبعد الكمي على حساب الكيفي والتسطيح على حساب سبر الأغوار ، والارتجالية بدل العمل الممنهج. فساد التنافس الشريف وغير الشريف حول المعدلات في جو من التباهي والتفاخر المقيت بين الأسر والمدارس الخصوصية والعمومية واغتصب البعد التجاري الإشهاري كل ماهو لا مادي وثقافي وقيمي. فتم تسليع العملية التعليمية، وأخرجت من سكتها وغايتها الكبرى المتمثلة في الرقي بالإنسان كحمال منظومة قيم ومعارف ومواقف ومهارات...

واستكان الجميع بذلك إلى التنميط من أجل الحفاظ على المياه الراكدة وترسيخا للاستمرارية وإعادة الإنتاج. فتحول المشهد مع توالي السنوات إلى شبه تعاقد حول ماهو باطل غافلين أو متغافلين القاعدة المتعارف عليها :أن ما بني على باطل فهو باطل.

وتأتي كورونا بهزاتها بما لا تشتهيه مجموعة من النفوس التي اعتادت أن تقتات على التراكمات معيدة مجموعة من الأمور إلى نصابها ولو من باب إطلاق صافرات إنذار.

صافرات ارتأيت أن أحولها إلى علامات استفهام وتساؤلات :

* أليس التقويم التربوي المعتمد يتم وفق مقاربة بيداغوجيا الكفايات ، الأمر الذي يستدعي تجاوز التقويم الكلاسيكي المبأر على المعارف إلى تقويم يتطلب استثمار مجموعة من الموارد المهارية والمفاهيمية من أجل حل وضعيات دالة.

* هل الاستيعاب المفاهيمي للمعرفة الرياضياتية لدى المتعلمين محقق فعلا بالدرجة المنشودة، ولعل التقارير والمعطيات المستخلصة والمستنتجة من التقويمات التشخيصية في بداية كل موسم دراسي تحمل في طياتها مايستحق الرجوع إليه بمزيد من التمحيص والتفسير.

* ماذا عن استراتيجيات ماوراء المعرفة في بناء المفهوم الرياضياتي باعتبارها ضرورة ملحة لبناء التعلم الذاتي ومنح قدر من الاستقلالية لدى المتعلمين في مواجهة المشكلات والمواقف.

* هل أغلب فروض المراقبة المستمرة والفروض المحلية والمنزلية ( أنظر الفروض الموجودة على المواقع التربوية (تحترم فعلا الإطار المرجعي المنظم لها.

* ألم يفرض تدني المستوى نفسه بقوة كإطار مرجعي وحيد يلجم إبداع المدرسين أثناء تصميم وتخطيط التعلمات وتقويماتها.

*لماذا أصبحت الامتحانات السابقة تحل محل الأطر المرجعية وبالتالي يصبح أي خروج عن المألوف هو بدعة ويتم تفسيرها بسوء نية على أنها ضلالة.

* ألا يسائل ما حدث الطرائق والأساليب والمناهج المتبعة في تدريس بعض المواد خصوصا تلك التي تكتسي حساسية خاصة داخل المنظومة كمادة الرياضيات.

* ماذا عن الاستخدام الضعيف للتكنولوجيا الرقمية في التدريس وإن قدر لها أن تكون فلماذا تغيب عن مجال التقويم،وهي القادرة على توفير قاعدة بيانات تتميز بالدقة والموضوعية.

* إلى متى سيظل الجانب النظري هو الطاغي في إرساء مواردنا وتعلماتنا وحتما في اختباراتنا على حساب المراقي العليا والمشاريع البيداغوجية التي تجعل من طلابنا أكثر كفاءة وتأهيلا لولوج عالم الشغل بفعالية ومردودية إنتاجية مهمة.

* من رسخ في ذهنية المتعلمين والطلاب أن الحل في مواجهة الأزمات يكون بالصراخ والبكاء.أين المناعة والتحصين السيكولوجي والعاطفي لقادة ومهندسي مستقبلنا .

* إلى أي حد سيظل الاختبار غاية في حد ذاته، تمحي مكتسباتنا ومواردنا بمجرد تخطي عقباته دون أن يتبلور وعي بوظيفته البيداغوجية التقويمية والتعديلية .

* هل يحظى التفكير العلمي بمكانته الحقيقية أمام تجذر التمتلاث والتفسير والتعليل اللاعلمي كلما أجبرت الظروف الأفراد على مجابهة موقف معين.

تلكم أسئلة وأخرى أتمنى أن تساق إلى مكانها الصحيح بدل أن تتحول إلى جبانة أرشيف متهالك وأن تزلزل قدر المستطاع الأسقام الجاثمة على قطاعنا التربوي منذ عدة سنوات لأن الاستثمار في المورد البشري لم يعد مسألة اختيارية بل مسألة وجودية .



شهيد ابوالعزم