تقديم

الواقع الحالي للجائحة الذي نعيشه يفترض من الجميع طرح الأسئلة حول دور العلم والمجتمع العلمي للنهوض بالمجتمع ومؤسساته لتحقيق التنمية. إنها لحظة المراجعة التي تتطلب نقدا بناء لتصحيح الأعطاب الكثيرة التي تميز مشهدنا العام، فالعلم والمعرفة عرفا تهميشا وحصارا جعلاهما لا يلعبان دورهما كاملا من أجل التثقيف والتنوير واكتساب المعرفة من طرف المواطن، للمساهمة في التنمية والتطور لبناء المجتمع ومؤسساته على أسس عصرية. نتذكر جميعا كيف حوربت الفلسفة والعلم في التاريخ العربي الإسلامي، وأيضا في المعاهد والجامعات العربية في العقود الماضية، لتتم بذلك محاربة العقل والتفكير العقلاني وإعاقة تنوير المجتمع.. فما هو واقع المجتمع العلمي؟ وكيف يمكن بناؤه لربح رهان التنمية والخروج من نفق التقليد والجمود الفكري والثقافي؟.

1– المجتمع العلمي في معادلة التطور والتنمية

يقوم العلماء والباحثون بمجهودات طموحة من أجل تطوير مجتمع علمي يستند إلى العقل والمعرفة العلمية من أجل التطور الفكري والمادي؛ لكن بقي الفكر العربي مغلفا بالتقليد والسكون والتراث ولم يستطع أن يتطور في اتجاه التحرر الفكري، نظرا لمحاصرة العلم والمعرفة والعلماء والمثقفين وتهميشهم ونبذهم من طرف السلطة السياسية في العالم العربي. وهنا يكفي ذكر ما تعرض له الفلاسفة والعلماء الكبار كابن سينا وابن رشد وأبو بكر الرازي وأبو نصر الفارابي والكندي، والقائمة طويلة، من حصار وتهميش واتهامات أدت إلى إفشال المشروع العقلاني التنويري والدخول في عصور الانحطاط والتخلف إلى اليوم؛ في وقت ستتمكن الدول الأوربية من ترجمة أعمالهم والانطلاق نحو الاجتهاد والإبداع في جميع أنواع العلوم. وبذلك حققت أوروبا ما عجزنا نحن عن تحقيقه بسبب تهميش العلماء وإقصائهم.

وإبان القرن الثامن عشر، كان للحركة التنويرية الأوربية الأثر الكبير في بناء مجتمعها الفكري والعلمي، والدفع بحركية التاريخ وتسريع وتيرة التغيير في المجتمعات الأوربية التي عجلت بتفكيك التفكير التقليدي لعصور القرون الوسطى، والخروج من العصور المظلمة بفضل تطوير العلم والمعرفة، في تطور جدلي مع التطور الاقتصادي والاجتماعي، لبناء مجتمع مغاير تتحقق فيه الحريات الفردية والجماعية وقيم المواطنة.

إن المجتمع العلمي بالعالم العربي يفترض تغييرا فكريا حقيقيا لبنيات العقل العربي، من أجل تطوير وتأهيل واقعه الفكري، ليكون قادرا على مواكبة العصر وتحقيق تطلعات المواطن من أجل التقدم والتنمية؛ فالأمم الأوربية استطاعت أن تتطور بصيرورة متسارعة وأن تحقق تفوقا في جميع الميادين، وذلك بتفكيك الاستبداد، بالاعتماد على حرية الفكر والاختلاف وحرية التعبير واستعمال سلطة العقل والعلم لتنظيم شؤون الدولة والمجتمع.. فالمجتمع العلمي يساهم في خلق مواطن جديد وحداثي متشبع بقيم حداثية وديمقراطية ومتفاعل بشكل جدلي وعقلاني مع موروثه الثقافي ومندمج في البناء الديمقراطي.

في هذا السياق، استطاعت الأمم أن تكتسب قوتها ومناعتها وهيبتها بالعلم والديمقراطية وتتحصن ضد الأطماع الأجنبية، لتصبح قادرة على فرض مصالحها في إطار علاقات متوازنة وعادلة؛ فالعلم أداة التنوير القادرة على خلق الحوار والتسامح والسلم، خصوصا حين تصان حقوق المواطن في مجتمع عادل أساسه المواطنة الحقة وليس مجتمع الجهل والتيئيس والإحباط. ودور العلم يتكامل مع الثقافة الراقية ومنظومة القيم الروحية والدينية المتنورة التي تهدف إلى بناء الإنسان المتصالح مع ذاته وحداثته المعاصرة في إطار الاختلاف والتعدد والمساواة على أرضية الديمقراطية وحقوق الإنسان لبناء مستقبل أفضل.

2- واقع واكراهات المجتمع العلمي

حان الوقت لإعادة الاعتبار للمجتمع العلمي الذي تراجع نظرا لما تعانيه المدرسة العمومية والجامعات والمعاهد من مشاكل بنيوية متعددة صعبت من مهامها التربوية ومساهمتها الإستراتيجية في التنمية؛ فعوض أن تكون فضاء لتطوير القدرات الإبداعية والنقدية عند التلميذ والطالب صارت مجالا لإعادة الواقع الاستهلاكي عوض الإبداع والنقد وتطوير قيم المواطنة لتحمل المسؤولية في مجتمع الغد. إن هذه المؤسسات التربوية تستحق كل الاهتمام والعناية والدعم، من أجل جعلها فضاء للعلم والمعرفة بجودة عالية، حتى يتم تطوير قدرات الأجيال الحالية والقادمة في جميع المجالات، للتشبع بقيم الحداثة والديمقراطية والحق في الاختلاف وتقبل الرأي الآخر والتسامح والتعايش والتضامن في المجتمع، برصيد علمي ومعرفي تحصنه من اليأس والخرافة والتعصب والتطرف.

وهذا يفترض من الدولة ومؤسساتها الدستورية جعل المدرسة العمومية والجامعات والمعاهد ضمن أولوياتها حتى تقوم بدورها الريادي والتنموي وعدم تهميشها، باعتبارها القلب النابض للمجتمع في التنمية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية. إن تعميم التمدرس وإجباريته والاهتمام بالبنيات التحتية للمدارس وفك الاكتظاظ ومراجعة المناهج التربوية وتجويد مضمونها المعرفي والعلمي والاهتمام بالموارد البشرية، كلها إجراءات من شأنها تأهيل المؤسسات التربوية من مدارس وجامعات ومعاهد وجعلها منارة المجتمع التي تنير فضاءاته المعتمة، من أجل انتشال الأجيال الحالية والقادمة من الجهل والتخلف والانحطاط.

وإذا كان البحث العلمي رافعة أساسية لخلق مجتمع المعرفة والعلم والتقدم، لمواجهة مختلف التحديات والتغلب عليها، فإن للقيم الديمقراطية وقيم المواطنة أيضا أهمية كبيرة، لإعادة بناء الدولة والمجتمع على أسس جديدة؛ فلا مجتمع ولا دولة بدون ثقافة ديمقراطية حداثية ومتنورة تتأسس على مرجعية فكرية علمية ومنفتحة تؤمن بإرادة المواطن وقدرته على المساهمة في تغيير واقعه نحو مستقبل أفضل، بعيدا عن الديماغوجية والشعوذة والتفاهة.

هذا دون إغفال أهمية العلم والعلماء والمعرفة العلمية في معادلة المجتمع الجديد لمواجهة التحديات والمخاطر، ومن ضمنها وباء كورونا الذي دفع بدول العالم إلى إعادة ترتيب أولوياتها؛ فحصانة المجتمع ومؤسساته تكون بالمجتمع العلمي الذي يشكل البوصلة الحقيقية نحو المستقبل بتطوير البحث العلمي في المعاهد والكليات والجامعات ومختبراتها وتأهيلها، من أجل مواكبة الأبحاث العلمية والاستجابة لرهانات التنمية ما بعد أزمة كورونا. لقد دقت ساعة الحقيقة، لتصحيح ثغرات واقعنا العلمي وإنصاف الباحثين والعلماء في مختبراتهم وتشجيعهم ودعمهم لإنجاز بحوثهم وتجاربهم، ليستفيد منها المجتمع أولا من أجل تقدمه وتطوره وحمايته من المخاطر.

3- رهان بناء المجتمع العلمي لمواجهة عصر كورونا

للأسف، مازال نزيف هجرة الأدمغة قائما بعدما تصرف عليها الملايين من أجل تكوينها وتأهيلها؛ فعوض احتضان العلماء والباحثين وإنصافهم وإدماجهم عبر خلق بنيات تحتية للبحث العلمي في الجامعات والمعاهد يتم تهميشهم في المجتمعات العربية لتستقطبهم كبريات الجامعات ومراكز الأبحاث الأوربية والأمريكية، لتستفيد من كفاءاتهم وخبراتهم وتحقق بذلك تطورها وتفوقها العلمي والتكنولوجي. وقد شكل حدث تعيين علماء وباحثين مغاربة وعرب في فرق البحث العلمية الأوربية والأمريكية، من أجل إيجاد لقاح لفيروس كورونا، أو تطوير بحوث في مختلف التخصصات، إنصافا لهؤلاء الذين لم يحظوا بالاهتمام والرعاية الكافية من طرف بلدانهم، نظرا لواقع البحث العلمي الذي لا يتلقى الدعم الكافي للقيام بدوره في التنمية وتطوير المجتمع. لكن، بالمقابل، يجعلنا هذا الوضع نتساءل عن واقع مجتمعنا العلمي ورهان تحقيقه.

إن أزمة كورونا جعلت الجميع يقف على حجم الثغرات التي يعاني منها المجتمع من تدهور في الخطاب الثقافي الذي يغيب أهمية العلم والمعرفة في مناقشة القضايا العامة والشأن العام؛ بحيث أصبح الفضاء العمومي والافتراضي موبوءا بالتفاهة والشعوذة والشعبوية الفارغة، يتطلب المعالجة والتصحيح من أجل السير إلى الأمام، وذلك بمقاربة ديمقراطية تؤسس لدولة الحق والقانون وحرية التعبير والحق في الاختلاف، وتمكن، أيضا، من انبثاق المجتمع العلمي، لتفكيك التفاهة بمشروع تنويري شامل للرقي بالوعي الجمعي خدمة للصالح العام ومستقبل البلاد.

لذلك، فتطوير التنمية الاقتصادية والحماية الاجتماعية في الدول النامية، عموما، لا يمكن أن يتحقق بدون حركة فكرية تنويرية، تعطي للعقل والتفكير العلمي، لإنارة العقول بالفكر النقدي القادر على تفكيك الواقع في سكونه وتحولاته الكبرى، بمنهج علمي للترافع، من أجل القضايا التي تشغل اهتمام المواطن ومتطلباته لتطوير قدراته في مواجهة رهانات المستقبل والتغلب على الفقر والهشاشة الاجتماعية.

خلاصة

إن الواقع الذي نعيشه يتطلب مراجعة نقدية عميقة للسياسات الرسمية لتصحيح أعطاب الماضي والحاضر على أسس علمية لإرساء ودعم مجتمع علمي يهدف إلى تنوير المجتمع وانتشاله من الأمية والجهل والتخلف؛ وهذا يفترض وجود حركة تنويرية عقلانية تعيد للعقل والعلم سلطتهما في التفكير لمعالجة القضايا العامة، مع تحديث موروثنا الثقافي والروحي بمقاربة تؤسس لحرية الفكر والتعبير والحق في الاختلاف. أيضا، بفضل المجتمع العلمي وخطابه التنويري والديمقراطي يمكن بناء مجتمع أكثر عدلا ينصف الجميع ويأخذ بعين الاعتبار إعادة تشكيل الوعي الجمعي على أسس وقيم جديدة للمواطنة والعدالة الاجتماعية، بعيدا عن الشعبوية والأنانية المفرطة والأطماع في السيطرة والهيمنة على الآخر.

وعليه، يعتبر المجتمع العلمي من ضمن الأولويات ما بعد كورونا، للتغلب على إكراهات الواقع العنيد للأزمة الاقتصادية والاجتماعية، وتحقيق التنمية وربح رهانات المستقبل في الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، بقيم جديدة تنصف الإنسان وتصون حقوقه وواجباته للعيش بكرامة في مجتمع يسع للجميع.

المصطفى رياني