هو نفس المسار، ونحن لا زلنا في سياقه: الاستبداد وآلياته ومتعلقاته ونواتجه ومخرجاته..

منطق العصابة حاضر في دواليب كل الأنظمة الشمولية، ذلك أن المستبدين لا يعجزهم تفعيل ربط المسؤولية بالمساءلة والمحاسبة، وإنما، ولأنهم يعلمون أن الأمر أشبه بلعبة "الدومينو"، أو سلّ خيط منسوج، تأتي نهايته حتما فور بدء عملية الإسقاط أو السل، لذلك هم لا يفعّلونها خوفا من انتقال عدواها صعودا تحت طائلة وضع العصى في العجلات من طرف الأدنوْن تطبيقا لقاعدتيْ: "علي وعلى أعدائي"، و" لماذا أنا فقط؟، إما ننجو جميعا، أو نغرق جميعا". وتفاديا لكل ذلك يلجأ المستبدون إلى لعب دور مغناطيس أخطبوطي جاذب مورّط لكل من اقترب منه، سعيا إلى تقوية صلابة واقيه من الصدمات، وتوسيع وتعديد عوازل الاتصال وحواجز التماس، عبر تطبيق مبادئ ومقتضيات توسيع قاعدة الفساد، و"كلْ ووكّلْ"، باعتماد منهج توريط الكل في التنفع والتربح والريع، سواء من منتسبي دواليب "الدولة" ذوي النفوذ، أو من السياسيين خاصة مَن قد يشكل منافسا محتملا أو بديلا يكتسي شرعية الصدق أو الأمانة أو نظافة اليد أو الإنجاز...

يلجؤون إذن إلى توريط كل المتدخلين بالترغيب والترهيب، تارة بالإرشاء بالامتيازات والإغراق في التحالفات حتى يستلذ الوافدُ الوضعَ ويستطيبه، وأخرى بالإسقاط في محاذير الكذب وعدم الوفاء حتى يصبح هذا الوافد الواعد أكثر حرصا على تعطيل مبدأ المحاسبة، لأنه لا ينفك من "الالتزامات" ولا يتحلل منها أبدا، فيعمل تلقائيا على تكريس الوضع القائم وحمايته كي يبقى على ما هو عليه بمبررات: "اللي تعرفو احسن من اللي ما تعرفوش"، و"ليس في القنافذ أملس"، و"ليس في الإمكان أحسن مما كان"، و"ما فيش حد أحسن من حد"، و"كلهم في الهوى سواء"، و"إذا عمت هانت"...

عند الأعراب، وفي زمن الرداءة، كل شيء ضعيف،، حتى المستبد، حيث لا يقوم ولا يصمد إلا بأركان من طينته، بهم يبقى وبهم يحتمي، وطبيعي ألا يسمحوا له بـ"الأكل" وحده دونهم وهم الأركان،، فإما يحاسبهم ويعاقبهم، وفي هذه الحالة لن يقوموا بحمايته ولا بالجبي له،، وإما يحافظ على كرسيه ومركزه وامتيازاته وسلطته المطلقتين، وفي هذه الحالة لا بد له من "أداء الزكاة للعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم"، كي يستمر الوضع،، وهو الواقع..

هذا على مستوى الممارسات الفعلية التي قد لا تكون كلها مدسترة على الأقل بشكل جلي.. أما على مستوى المنظومات القانونية الحامية، فإن العصابة تسن منها ترسانة تحافظ بها على الامتيازات والحصانة، وتحقق الاستمرار في التحكم للمستفيدين من الوضع الراهن، ولا تمكّن من محاسبة أي فرد من أفراد الطغمة المتحالفة حتى في طبقاتها السفلى، حتى يغري الأعلون الأسفلين للعمالة بتفان وبثقة وارتياح واطمئنان من يقينية وسرمدية عدم المحاسبة، لأن الأسياد قد هندسوا وضمنوا غياب أية مساءلة أو معاقبة، سواء كانت قانونية أو حتى انتخابية حقيقية، وأسسوا لذلك كيانات بنيوية ممتدة هرميا، ومرتبطة بكل المجالات، حيث لا يمكن -مثلا- حصر عدد مرات الترشح لتقلد أية مسؤولية في بلدان حكامها ثابتون مثبّتون من المهد إلى اللحد، وطبعا لا يمكنهم أن يضمنوا التثبيت لو ما ثبّت أزلامَهم، ولا يقع هذا التثبيت إذا ضيقوا على خدامهم وحرموهم من دوام النعم.. وعلى كل حال لا يُنتظر أن يفعّل المراقبة والمساءلة من لا يستسيغ أن يراقَب.. فالحكام لا يمكن أن يحاسبوا أو يكبلوا أيد من يحمون عروشهم، لأنهم بكل بساطة يكونون قد هددوا معاونيهم، فآذوا أنفسهم!!..

إن آلية المراقبة والمحاسبة لا تستقيم ولا تؤدي دورها إلا إذا أُغلقت دائرتها، حيث يكون كل مكون منها في موقع المحاسِب والمحاسَب في نفس الوقت، بما فيها الرقابة الشعبية التي يجب أن تشكل الركن الشديد في العملية، فيقع خوف الكل من الكل، ويحرصون على أداء واجب المحاسبة التي هي عمود الاستقامة.. أما إذا تُركت هذه الدارة مفتوحة بحيث غابت أو حُذفت حلقة الرقابة الشعبية، فإنه حتى في حال وجود "مؤسسات رقابية أو قضائية"، لا يمكن تفعيل دور أية رقابة فعلية إطلاقا ما دامت تلك الحلقة التي من المفترض أنها هي الصمام الذي يغلق الدائرة بإخضاعه السلطة الحاكمة للمحاسبة عبر إعادة تفويضها من أجل الحكم والتسيير، أو طردها لتحل محلها سلطة سياسية بديلة تفعّل في حق المذنب من سابقاتها الإجراءات والمساطر القانونية الجاري بها العمل..

لا يمكن تصور مراقبة ولا تفعيل دور المساءلة والمحاسبة إذن ما دامت هذه الرقابة الضامنة للانزجار الذاتي الأوتوماتيكي غير موجودة، مما يتيح الإفلات والتنصل والتملص من المساءلة نتيجة عدم إغلاق الدائرة، وبالتالي شيوع الارتياح، ما دامت فرص وإمكانيات الانفلاتات

والتسويات سانحة تتيح لغير المراقَب الآمن أن يعفو عمن يشاء ويعقد صفقات مع من يريد، في مستوى من المستويات، فتشيع الميوعة والتفسخ وتتسلل في هرمية مختلف مستويات ودواليب الدولة، تحقيقا لقاعدة التعدي!!!..

إن انفراط عقد المراقبة هو سبب البلاء وتردي الأوضاع في ضيعات تُنعت "دولا عريقة" أغلبها تجاوز نصف القرن من ما يسمى زورا "استقلالا"،، بعدما غاب دور الحكام في المحاسبة، فوصلنا إلى ما وصلنا إليه، وأصبح دورهم يقتصر على تحميل المسؤولية للمواطنين في "اختيار الفاسدين"، بدل ممارستهم مهامهم المفترضة في منع الفساد ومعاقبة الفاسدين، والتي لا يملك غيرهم السلطة والصفة والصلاحية ليقوم بها،، كما أنه لا مهمة لهم غيرها..

والواقع أن الأمر محض طوباوية موغلة في المثالية أن تطالب من حكام شموليين عقدوا تحالفات من أجل امتلاك "القدرة المطلقة"، تطالبهم أن يعفّوا تلقائيا دون وازع ويتحدوا الميل البشري؟ وإلا كيف يكون المآل إذا كان الحال تجمّع السلطة والمال والإعلام والجيش والأمن والقضاء... في يد واحدة،، وإلى الأبد، أيا كان صاحب اليد من البشر؟؟!!!..

إن الحاكم، أيّ حاكم، أيّ إنسان، إذا كان ثابتا محصنا مطمئنا، فإنه يتصرف في "دولته" تصرف المالك في مِلكه، فكيف له أن يلزم نفسه بمحاسبة من يتربع على أكتافهم، وقد تلحقه التبعات؟؟!!!..



 سعيد المودني