يتفق المغاربة قاطبة على أن من بين الإشكالات الكبرى التي باتت تقض مضاجعهم وتعبث بأعصابهم، وتحول دون تطور البلاد وتحقيق التنمية والعدالة الاجتماعية، ليس فقط في إسناد المسؤوليات لغير مستحقيها من ذوي الكفاءة والخبرة أو ضعف الحكومات المتعاقبة وسياساتها الفاشلة، بل كذلك في تفاقم الفساد بمختلف أشكاله وغياب الحكامة الجيدة والشفافية والنزاهة وربط المسؤولية بالمحاسبة. مما فسح المجال واسعا أمام منعدمي الضمير في التلاعب بمصالح العباد واستنزاف خيرات البلاد.

إذ لم يعد يمر علينا يوم دون أن تصلنا الأصداء من هنا وهناك عن فضائح أخلاقية أو تطالعنا المنابر الإعلامية وشبكات التواصل الاجتماعي عن جرائم مالية وإدارية، أبطالها ليسوا سوى أولئك الذين وضع فيهم الناخبون أو ملك البلاد ثقتهم، على أمل تكثيف الجهود ونكران الذات بحس وطني رفيع وروح المسؤولية في سبيل خدمة الوطن وأبنائه، من خلال النهوض بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، والقيام بما يلزم من إصلاحات كبرى، خاصة في قطاعات التعليم والصحة والتشغيل...

ففي أقل من أسبوعين اهتز الرأي العام الوطني لفضائح من العيار الثقيل، إذ بينما كان المواطنون منشغلين بالفضيحتين اللتين بلغت أصداؤهما إلى الصحافة الدولية، المرتبطتين بالقياديين في الحزب الأغلبي "العدالة والتنمية"، وهما: المصطفى الرميد الوزير المكلف بحقوق الإنسان والعلاقات مع البرلمان والمجتمع المدني ومحمد أمكراز وزير الشغل والإدماج المهني، حول تورطهما في خرق القانون وحرمان مستخدميهم من حقوقهم المشروعة في الحماية الاجتماعية، من خلال عدم التصريح بهم لدى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي. إذا بفضيحة ثالثة تطفو على السطح، وتتعلق هذه المرة بالقيادي في حزب التجمع الوطني للأحرار ووزير الشباب والرياضة السابق رشيد الطالبي العلمي، المتورط في إنشاء موقع إلكتروني بمبلغ 250 مليون سنتيم، بينما يؤكد تقييم مختصين على أن تكلفته لن تتجاوز 30 مليون سنتيم على أبعد تقدير. ثم فضيحة رابعة، ليس بطلها سوى العربي لمحرشي القيادي في حزب الأصالة والمعاصرة المعارض، وهو المستشار والمحاسب بمكتب مجلس المستشارين ورئيس المجلس الإقليمي لوزان، الذي كشفت لجنة مختلطة بين المفتشية العامة للإدارة الترابية التابعة لوزارة الداخلية والمفتشية العامة لوزارة المالية، في افتحاصها للمجلس عن عدة خروقات واختلالات مالية وإدارية خطيرة...

وتأتي كل هذه الفضائح التي يحاول أصحابها نفيها وغيرها كثير، بعد أن مضى زهاء عقد من الزمن على إقرار دستور 2011، الذي يشهد فقهاء القانون بأنه يعد من أقوى الدساتير التي عرفتها بلادنا وأكثرها تطورا، لما يحمل من مقتضيات متقدمة ويمنح رئيس الحكومة من صلاحيات واسعة وغير مسبوقة. لاسيما على مستوى دسترة كافة حقوق الإنسان، كما هو متعارف عليها عالميا، تخويل المعارضة البرلمانية نظاما خاصا وآليات ناجعة، ترسيخ سلطة قضائية مستقلة عن السلطتين التنفيذية والتشريعية، فضلا عن تعزيز آليات الحكامة الجيدة، وتخليق الحياة العامة، ومحاربة الفساد، بإحداث منظومة مؤسسية وطنية منسجمة ومتناسقة، عبر تقوية دور المجلس الأعلى للحسابات والمجالس الجهوية الخاصة بمراقبة المال العام، وتكريس مبادئ الشفافية وعدم الإفلات من العقاب، ودسترة مجلس المنافسة والهيأة الوطنية للنزاهة ومحاربة الرشوة والوقاية منها...

وبالرغم من كل ما اتخذته السلطات من إجراءات بدعوى محاصرة الفساد، إلا أنه مع مرور كل هذه السنوات، فإن دار لقمان بقيت على حالها وبدا واضحا أن أي خطاب عن "إسقاط الفساد" لا يعدو أن يكون إعلانا عن نوايا. حيث مازالت "الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد" التي خصصت لها ميزانية ضخمة غير قادرة على رسم أي أثر إيجابي على أرض الواقع في الحد من وتيرة هذه المعضلة

المتصاعدة، والتي لم تعد أي مؤسسة تخلو من آثارها، كما تدل على ذلك جل تقارير المجلس الأعلى للحسابات وغيره من مؤسسات الرقابة، التي ما انفكت ترصد العديد من الخروقات المالية والإدارية.

إن تعطيل طاحونة الفساد والتصدي لمختلف مظاهره من رشوة وصفقات مشبوهة ونهب المال العام وغيره، أكبر من مجرد آليات وقوانين ومؤسسات مهما بلغت أهميتها، إذ يتطلب تخليق الحياة العامة وإيقاف النزيف، أن تأخذ الأحزاب السياسية على عاتقها عبء الترشيح لمناصب المسؤولية من هم أهل لها على مستوى الكفاءة العالية والحس الوطني الصادق والالتزام بالقوانين واحترام حقوق الإنسان. وأن تتوفر الإرادة السياسية القوية والرؤية الاستراتيجية الواضحة المعالم والبعيدة المدى، فضلا عن اعتماد الشفافية والحكامة الجيدة وربط المسؤولية بالمحاسبة. أما إذا ما تواصل مسلسل المهادنة والتطبيع مع الفساد والرشوة واقتصاد الريع والإفلات من العقاب، فمن الصعب إحداث أي طفرة نوعية وتحقيق التنمية...



اسماعيل الحلوتي