يعلم المطلع على تقارير منظمات دولية معنية بقضايا التعليم أنها ترفض تحويله إلى سلعة تخضع لرغبات السوق في صورته المتوحشة،وأنها تعتبر (تجارة التعليم) جزءا من ممارسات تبعده عن جوهره النبيل الخادم لقيم المواطنة المتعالية عن جعل الربح مُوجٍّها للمستثمرين فيه، ومُقَدَّما على غيره.

وكي لايتم تهريب النقاش بالادعاء أن المنظمات الدولية لاتعرف الواقع المغربي،وأنها تتهجم على البلد،وعلى قطاع التعليم الخصوصي، فإننا سنتجاهل هذه المقدمة القصيرة،لنستحضر وثيقة مرجعية وطنية قدمت ما يفيد أن هذا التعليم ليس بخير،وأنه لايستجيب إلى الحدود الدنيا مما عبر عنه الميثاق الوطني للتربية والتكوين،وما سطرته الرؤية الاستراتيجية.. يتعلق الأمر بماورد في تقرير للمجلس الأعلى التعليم بعنوان (الأطلس الترابي للتعليم الخصوصي بالمغرب 2018)

يعتمد التقرير لغة الأرقام، ثم يبني عليها استنتاجات سنحتفظ بها كما هي، مع إضافات تزيد الرؤية وضوحا. هكذا، يشخص التقرير واقع التعليم الخصوصي بالمغرب، فيصفه،ضمنيا، بالمُرَسٍّخٍ للفروقات الاجتماعية،و المُكَرٍّسٍ للامساواة بين التلاميذ المغاربة.فهو « شبه منعدم في المناطق الفقيرة للمملكة»،إذ « من أصل 1538 جماعة مغربية، فإن 270 فقط مشمولة بالتعليم الخصوصي بنسبة تغطية عامة تصل إلى 17.6 بالمائة ».كما أن « مؤسساته..منعدمة في مناطق« المغرب العميق »، فقد سجلت جهتا «الدار البيضاء-سطات، ودرعة تافيلالت ...على التوالي،المرتبة الأولى، والمرتبة الأخيرة في كل الأسلاك التعليمية (الأولي، الابتدائي، الثانوي الإعدادي والثانوي التأهيلي) بشأن حصة الأفراد من المؤسسات التعليمية الخاصة ».كما أن الفارق بين الجهتين بلغ 29.1 % في التعليم الأولي، و24.8 % في الابتدائي، و13.4 % في الثانوي الإعدادي، و14.6 % في الثانوي التأهيلي »...فما الذي يعنيه ذلك؟

إضافة إلى العبارات الواردة في التقرير، فإننا نضيف أن الأرقام،وفق هذا التوزيع،تجعل المستثمرين في القطاع غير مستحضرين لمفاهيم من قبيل العدالة المجالية، وأنهم غير معنيين بما سطره الميثاق الوطني للتربية والتكوين أو الرؤية الاستراتيجية من حديث عن شراكة عام- خاص،وعن التماسك الاجتماعي،والتضامن الاجتماعي،وعن تحسين جودة العرض التربوي، وتحقيق التميز والإنصاف، وتكافؤ الفرص، والإسهام في تحسين ظروف التمدرس في المناطق التي تعاني من الخصاص،خاصة في المناطق القروية وشبه الحضرية...وأن الهدف في نهاية المطاف هو البحث عن فضاءات الربح،علما أن منطق الربح مشروع في كل استثمار،لكنه يصبح،في مجال التعليم، خاضعا لقيود مجتمعية،وأخلاقية،ومُوَاطٍنة...لذلك نفهم جيدا لماذا تصر المنظمات المشتغلة في المجال على رفض الحديث عن التعليم باعتباره تجارة، أو سلعة.

لعل ما يؤكد صحة هذا التأويل هو ارتفاع نسبة أرقام القطاع الخاص في التعليم في ظرف أقل من 10 سنوات ( من 7 % سنة 2007 إلى 13,8 %سنة 2017)؛أي بما يفوق 100 %.. ومادام هدف الاستثمار الخاص في القطاع محكوما بلغة المال والأرباح الجيدة، فإن هذه النسب الإستثمارية تؤكد أن القطاع جد مربح،ولو لم يكن كذلك لما استثمر فيه من استثمروا..لكن المستغرب حقا هو أن الاستثمار يتوجه إلى الشق الأكثر ربحا،وليس إلى الشق المربح (فقط) ،أو الأكثر نفعا للمجتمع .. يبدو ذلك واضحا من خلال المقارنة التي يعقدها التقرير بين التعليمين الخصوصيين الدولي والوطني. ذلك أن الحصة الإجمالية الدولية للتعليم الخصوصي تزداد كلما تقدمنا في الأسلاك التعليمية وفق النسب الآتية: ( تبلغ 17% في الابتدائي، و26 % في الثانوي، و33.8 % في العالي) ...فما الذي يحصل في المغرب؟

يقول التقرير: « في المغرب يحصُل العكس،حيث تتقلَّص الحصة الإجمالية للتعليم كلما تقدمنا في الأسلاك التعليمية، إذ تبدأ بـ16.7 % في الابتدائي لتستقر في 7.1 % في العالي »... فما معنى ذلك؟

لايجيبنا التقرير عن هذا السؤال، لكننا نستطيع القول: إنه الربح ..فكلما ارتفع عدد المتمدرسين كان الربح أكبر...والحال أن الكم المطلوب مضمون في الابتدائي،لكنه يتقلص كلما ارتفع المستوى. ومنطق الربح المضمون يقتضي الاستثمار فيما أعداد زبنائه وافر ،ومؤكد، وهو ما يتحقق في الابتدائي، وليس في الجامعي.

رقم آخر لايحتاج إلى مناقشة كثيرة؛لأنه يكشف عن معناه ،رغم أن الآرقام في العادة خرساء. يقول التقرير:

(يتميز التعليم الخصوصي بتمركزه القوي جدا. فمن بين الجهات الإثنثي عشرة للملكة. تستحوذ ثلاث جهات فقط على 64,4 % من أعداد نلامذة التعليم المدرسي برمته. ويتعلق الأمر تحديدا بجهات الدارالبيضاء-سطات، والرباط-سلا القنيطرة، وفاس- مكناس التي يتمركز فيها 54,9 %من المتمدرسين بالتعليم الأولي الخصوصي، و64 % من تلامذة التعليم الابتدائي الخصوصي، و63.1 % من تلامذة التعليم الثانوي الإعدادي الخصوصي، و71.6 % من تلامذة التعليم الثانوي الخصوضي)

ننتقل الآن إلى مستوى أخر من النقاش بطرح سؤال الجدوى؛ جدوى التعليم الخصوصي أصلا. مرادنا من ذلك إبطال الاستدلالات المقدمة من أصحاب القطاع، ومن بعض الوثائق الرسمية كذلك..فرغم اقتناعنا بحق رأس المال الوطني في أن يستثمر في التعليم أو في غيره، إلا أننا نرى أن الاستثمار في مجال التعليم، بالضبط، ينبغي أن يكون محكوما بأفق وطني ومواطن، ورؤية استشرافية تساهم في بناء المواطن كي لايتحول المواطن نفسه إلى سلعة تقاس قيمتها بمدى قدرتها على الأداء هنا أو هناك .

نحدد استدلالات القطاع الخاص التي تزكيها بعض الوثائق الرسمية في أربعة هي:

1: القطاع الخاص: الشريك الوهمي

نقرأ في القانون الإطار مواد ذات صلة بموضوع هذه الشراكة الوهمية. نجد ذلك ،مثلا،في المواد 13 و 14 و 47... نقرأ في المادة (13): (تلتزم مؤسسات التربية والتعليم والتكوين التابعة للقطاع الخاص، في إطار من التفاعل والتكامل مع باقي مكونات المنظومة بمبادئ المرفق العمومي في تقديم خدماتها،والمساهمة في توفير التربية والتعليم والتكوين لأبناء الأسر المعوزة وللأشخاص في وضعية إعاقة وكذا الموجودين في وضعية خاصة...كما تلتزم المؤسسات المذكورة في أجل لايتعدى أربع سنوات بتوفير حاجاتها من الأطر التربوية والإدارية المؤهلة والقارة.وتحدد بنص تنظيمي شروط ونسبة مساهمة مؤسسات التربية والتعليم والتكوين التابعة للقطاع الخاص في تقديم خدماتها بالمجان للفئات المذكورة.)

ونجد في المادة (14) حديثا عن (نظام تحفيزي لتمكين هذه المؤسسات من المساهمة في مجهود التعليم الإلزامي،وتحقيق أهداف التربية غير النظامية،والمساهمة في محاربة الأمية ولاسيما بالمجال القروي، وشبه الحضري، والمناطق ذات الخصاص). .أما المادة (47 )فإنها تتحدث عن إحداث صندوق لتمويل منظومة التربية والتكوين، وتحسين جودتها يتم تمويله في إطار الشراكة من طرف الدولة والمؤسسات والمقاولات العمومية ومساهمات القطاع الخاص وباقي الشركاء ..) ..ولاشك أن جملة (القطاع الخاص) تُدْرٍج،التعليم الخصوصي ضمنه، ما عدا إذا صنف نفسه ضمن قطاعات أخرى لانعلمها.

الأسئلة المقلقة المرافقة لذلك هي: كيف يتم الجمع بين نظام تحفيزي للقطاع الخاص ، وفي الوقت نفسه يكون هذا القطاع مساهما في صندوق لتمويل التعليم ؟ ألايكون التعليم الخاص،هنا،مستفيدا من محفزات هي نفسها ما سيساهم به في دعم التعليم ؟ وإذا صح ذلك، فإن التمكين للقطاع الخاص لاتسايره أهداف أصحابه فقط ،بل يدعمه القانون أيضا...

2. تعليل وجود القطاع الخاص بالحديث عن الجودة

إنه الحديث المردود بالأرقام والمعدلات التي تؤكد أن أعلاها في الباكلوريا، مثلا، هي معدلات حصل عليها تلاميذ وتلميذات المؤسسات العمومية.ودعك من نسب النجاح فيما قبل ذلك، فتبك حكاية لاتُرْوَى.. ..كما أن هذه الجودة ،المفترى عليها، لم يتم تقييمها بناء على معطيات علمية، ودراسات محكمة، ليبقى هذا الاستدلال مجرد كلام ، وشعارات تُرفع لتَحْمٍي ....

3. تعليل وجود القطاع الخاص باحتياجات الطالب والسوق والدولة

نعتبرها حجة مردودة ؛لأن احتياجات السوق غير معروفة حالا، ومستقبلا؛إذ لاتوجد دراسات علمية موثوقة تبين نوع المهن المستقبلية،أو نسبة الخصاص في هذا القطاع أو ذاك،مما يسمح بتوجيه دفة التعليم في اتجاهها، وتكييف الكفايات المرادة كي تستجيب لحاجات السوق.وهي استجابة لم يكتبها الله في اسم القطاع الخصوصي بمفرده.

4. معادلة التعليم والتوظيف

كثيرا ما يستشهد أنصار التعليم الخصوصي في كل المستويات التعليمية بحجة الشغل والتشغيل،فيؤكدون أن القطاع الخاص يوفر ما يستطيع به طالب اليوم ضمان مستقبل وردي. وأن المؤسسة التعليمية العمومية لم تنجح في ذلك. والحال أن المؤسسة التعليمية ليست مسؤولة ، أصلا، عن التشغيل الذي هو مهمة من مهام قطاعات أخرى .

قد نستطرد في هدم هذه الاستدلالات التي لاتقوم على أسس مكينة، لكن هدفنا الأساس هو تقديم أمثلة للقياس عليها،وكي يصبح نقاش وضع التعليم الخصوصي بالمغرب، اليوم، جزءا أساسيا من القضايا ذات الأولوية،وأن يكون هذا النقاش صريحا وجريئا ومسؤولا.تُسْتَحْضَر ُفيه وظائف هذا التعليم،وغاياته وأهدافه،ووضعه المالي والضريبي،ناهيك عن الجوانب البيداغوجية والديداكتيكية والتدبيرية والتوظيفية ..، وأن يكون المُوجٍّه في كل ذلك مُقَيَّدابالمقاربتين الحقوقية والتنموية.ذلك أن التعليم،باعتباره حقا من حقوق الإنسان،ينبغي ربطه بالعدالتين الاجتماعية والمجالية؛و ألا يخضع لمنطق القواعد التجارية،أو أن لا يكون سلعة تُقَاسُ بمبدإ الربح المادي،وأن تقييمه ينبغي أن يستند إلى مبادئ القيم الاجتماعية والغايات المجتمعية التي تُلْزٍمُ الدولة بحمايته، و توفير التمويل الضروري له، وعدم تركه مجالا مفتوحا بصورة قد تجعل ضرره أكثر من نفعه.

 

جمال بندحمان