في ظل الظروف العصيبة التي عاشها جزء من المغاربة، جراء واقع الحظر الصحي المفروض من منطلق الوقاية الصحية، فقد حصل تغيير واضح على مستوى العديد من العادات والسلوكات الاجتماعية والنفسية لدى المغاربة، لا سيما مع الضغوطات الاجتماعية والأسرية وكذا تقلبات الأخبار الواردة عن الفيروس بحكم الانتشار الواسع لوسائل الاتصال والتواصل، كل هذا جعل الاهتمام بالبعد النفسي يحظى بحيز هام من اهتمامات المغاربة وانعكس ذلك في شكل جلسات واستشارات مع المختصين في المجال وكذا عبر مطالعة بعض الكتابات التي تعنى بالمجال.

وقد لا نخفي سرا من حيث التأكيد على أهمية بعض الكتابات في هذا الموضوع، وذلك بحكم القيمة العلمية والأدبية لأصحابها وباعتبار حجم الخدمات التي أسدوها ولا يزالون يسدونها في المجال خصوصا في مثل هاته الظروف العصيبة. وقد نسوق على سبيل المثال لا الحصر إسهامات الكاتب الألماني والمعلم الروحي الشهير "إيكارت طولي" الذي أنتج العديد من المؤلفات، غير أن مؤلفه الكبير "قوة الآن" أو "قوة اللحظة الأنية" يعد الأبرز من حيث إثارته الانتباه إلى "الأهمية العلاجية" لبقاء الإنسان "حاضرا" في اللحظة الآنية، يستمتع ويتلذذ بآنيتها وأن لا يترك الإنسان لدماغه "كل الحرية للسراح به حيثما شاء" باعتبار أن هذا الأخير ما يفتأ أن يخلق المعاناة للإنسان سواء عبر محاولته الارتماء بالإنسان في الماضي أو الانتقال به إلى المستقبل، كل ذلك من أجل حرمان الإنسان من الاستمتاع بموسيقى الحياة الآنية وهي تتدفق من حواليه، وهي التي تعتبر أهم لحظة يتعين أن نعيرها كامل العناية والاهتمام.

للتأكد من ذلك، ما علينا سوى تأمل صورنا المأخوذة من الماضي، إذ غالبا ما نجدها جميلة، وأجمل مما كانت عليه حتى في لحظة أخذ تلكم الصور، مرد ذلك أساس إلى أن دماغنا في لحظة التقاط تلكم الصور لم يكن يترك لنا فرصة الاستمتاع بتلك اللحظة كما هي، لقد فوت علينا إمكانية الاستفادة من جمالية تلكم اللحظات، وبهذا فإن الكاتب يدعونا لكي نعرف أن نعيش لحظاتنا بامتياز وأن نستمتع بتفاصيل الحياة ما أمكن، حين ننهض من النوم مثلا قد يكون مفيدا ونحن واقفين في الحمام أمام المرآة، الاستمتاع باللحظات التي يكون فيها الماء ينزل من الصنبور أو اللحظة التي نكون فيها نغسل اليدين بالماء وهو يتطاير ويتداخل في ما بينه، إنها حقيقة أشياء جميلة ورغم كونها تتكرر تقريبا يوميا إلا أننا وعلى ما يبدو نكاد لا نعيرها ما تستحقه من اهتمام.

بحسب "إيكارت طولي"، فكينونة الإنسان يتعين أن تعاش بكامل الجسد والمدارك والأحاسيس والجوارح وليس بالدماغ فقط، إذ يتعين أن ننغرس كليا في اللحظة الحاضرة حتى نعطي لها كل قوتها ومدلولها، بحيث لا نختزل "عيش اللحظة" في معادلات ينجزها الدماغ لوحده لا سيما إن كان هذا الدماغ منشغلا وحبيس بعض الأفكار السلبية، هاته الإمكانية التي نتوفر عليها، والتي لا يتم تقديرها حق قدرها، قد تكون سببا في معالجة الكثير من مشاكلنا ومشاغلنا، كم مرة وبفعل ارتياح جسدنا ببعض التمارين الرياضية، يكون مستعدا أكثر لإنجاز بعض المعادلات الرياضية التي كانت قبل الممارسة الرياضية تبدو صعبة، يقع لنا في عدم استغلال مجمل جوارحنا كذلكم المتسول الذي تجده "غير منتبه" لما يملكه من المال في الصندوق الذي يجلس عليه فقط لأنه لم يسعف نفسه اكتشاف واستثمار مجموع إمكانياته والتي قد تعفيه من طلب الاستجداء من أي أحد.

في بعض لحظات التوتر، جميل أن يتحول الإنسان إلى مجرد ملاحظ للصور التي "تسيطر عليه" وتمر من أمام دماغه، لا سيما إن لم يكن الإنسان في "لحظته"، فالإنسان عموما تجتازه فترات أو لحظات يكون فيها من حيث المزاج أشبه بفصول السنة، إن أحس الإنسان بأن مزاجه خريف أو شتاء واضطراباته كثيرة أو كثيفة فمن الأحسن جدا أن ينحني للعواصف ويدع الصور والمشاهد تمر من أمام دماغه، من دون حاجة منه إلى الارتباط بهذه الأفكار السلبية، إذ من شأن التركيز على هاته الأفكار أن يغديها ويمنحها "فرصة العمل فيه" ما دام أنه غير مهيئ لذلك، وقد يعود الشخص نفسه إلى نفس تلكم الأفكار إذا ما أحس بأن مزاجه قد أصبح ربيعا أو صيفا وفي وضعية قد تساعده على معالجة الأمور.

ربما أيضا قد يلجأ الإنسان إلى "صب قليل من الزيت" في دماغه لكي يدعه يدور ويشتغل من دون ما يبقى حبيسا ومرتبطا بأمر معين، لا سيما إن كان هذا الأمر عاملا سلبيا أو أفكارا هدامة، "تقنية دع الأمور تمر" من "دون شد الحبل" قد تساعد كثيرا في التخفيف من المعاناة، كم مرة ونحن صغار كنا نحاول اصطياد الفراشات خصوصا في فصل الربيع، كنت تجدنا كثير الجري عليها خاصة إن كانت ملونة حتى نلهث ولكن من دون جدوى، وحتى إذا ما استسلمنا للراحة، فقد تجد نفس الفراشة التي تعبنا من أجل اصطيادها، إلا وقد جاءت بنفسها وبكل هدوء وراحة وسكينة حتى تقف على اكتافنا ونحن مستلقون على الأرض في الربيع.

لقد ظهر أن "تقنية دع الأمور تمر" لا تقدر عليها بعض القردة لأنها لا تقدر على تسريح أيديها في الوقت الذي تقبض فيه على ليمونة أو موزة، حين يدخل القرد المسكين يديه في أحد الشبابيك، يدخلها مسرحة بالكامل، غير أنه ما أن يقبض على الليمونة حتى تجده "وقد سجن نفسه بنفسه" من حيث أنه لم لا يقدر على تسريح يديه، بحكم ارتباطه الكبير بموضوع شغفه والتي هي الليمونة، بنفس الكيفية ربما تجد الكثير منا بحكم التشبث بأمر معين، والتركيز عليه، تجده غير قادر على تركه ومبارحته ونسيانه حتى لو كان نسيان هذا الأمر (مع تفهمنا وتقديرنا لحجم المجهود للقيام بذلك) بإمكانه أن يطلق سراحه ويخلصه من المعاناة ولو مؤقتا.

من جهة أخرى ربما يكون مفيدا التسلح بخصلة "القبول بالشيء" خاصة إن كان هذا الشيء عامل إزعاج وتوتر نفسي للمرء، ولما لا تجريب "حب هذا الشيء" لا سيما إن كنا غير قادرين عمليا على التخلص منه، فكم من كاتب عليه أن يتوجه بالشكر إلى معاناته الداخلية التي ألهمته ودفعته للكتابة، فقط لأن هذه المعاناة هي التي جعلت منه كاتبا بالشكل الذي هو عليه، وقد يكون مفيدا في بعض الأحيان أيضا القبول بالحدود والإمكانيات التي نمتلكها كتقنية قد نربح معها "المهادنة مع الذات" وعدم الدخول معها في حرب بلا هوادة.

أما إذا لم يستطع الإنسان الوقوف ندا في صراع مع أحد الأمراض النفسية المستعصية، فقد يكون مفيدا "تدبير هذا الأمر"، تطبيقا للقاعدة الذهبية التي تقول، المرض النفسي الذي لا نمتلك الأدوات والتقنيات لمعالجته والتخلص منه، علينا أن نقوم بتدبيره، معرفة قوته وقوتنا ومعرفة نقاط ضعفه وضعفنا حتى يسهل علينا خوض هذه المعركة... في المصحات غالبا ما نسمع بأن هناك المرض وهناك المريض، المريض المتسلح بأعثى التقنيات الذهنية والمعرفية والنفسية قد يكون شرسا في مواجهة المرض على عكس المريض الذي يكون مهيأ سلفا للاستسلام ولا يمتلك أدنى مقوم للمقاومة ذلكم المريض يكون لقمة سائغة أمام المرض.. إنها دعوة للاستثمار في القراءة وأساسا للاستمتاع بلحظاتنا الآنية.

 

سعيد الزغوطي