يُعد أستاذ التعليم الثانوي السابق الناشط الحقوقي أحمد عصيد من بين الأصوات المسموعة في النقاشات العامة، فهو دائما على رأس المشاركين، إذا لم نقل المؤطرين لأبرز الندوات التي تعرفها الساحة الوطنية حول قضايا الشأن العام المختلفة. ويمكن أن يعتبر بما لديه من قدرة على تبسيط الخطاب وجعله مفهوما لأكبر عدد من الناس ممن صاروا يصنعون رأي متابعيهم وتموقفاتهم. وحيث إنه معروف كمدافع شرس عن العلمانية كما يفهمها الغرب، فسنتوقف عند ما ينشر من كتابات وإسهامات لنلقي أضواء كاشفة على بعض من أفكاره وتموقفاته، ونرى ما إذا كانت فعلا تنويرية بالقدر الذي تدعيه أم إنها لا تعدو كونها إعادة تدوير لإيديولوجيا علمانية فجة تروم استنبات نفسها في تربة غير تربتها.

نظرة عصيد إلى المسلمين

إن المتمعن في مقالات عصيد لن يحتاج إلى كبير عناء ليكتشف أن نظرته إلى المسلمين يكتنفها سوء تقييم، كثيرا ما تطغى عليه التعميمات وأحكام القيمة التي لا تختلف في حقيقتها عما كان يقوله قادة الاستعمار ويردده اليوم عنصريو اليمين المتطرف.

المسلمون محكوم عليهم بالتخلف

المسلمون، حسب تقييم عصيد، محكوم عليهم بالتخلف والعجز عن الدخول في ما يسميه "نادي الكبار". ومَرَدُّ كثير من أوضاع تخلفهم في الفكر والممارسة والعلاقات الاجتماعية والتشريع والإفتاء هو "فكر الأشاعرة والمذاهب الفقهية القديمة التي جمّدت المجتمعات الإسلامية وحكمت عليها بالتخلف الأبدي"، وأن "الإقبال على التقليد والاجترار ونبذ العقل وعلومه وتكريس الاستبداد السياسي والظلم الاجتماعي والتفاوت، لم يكن ليتحقق إلا "بناء على نظام شرعي إسلامي(...)".

من خلال هذا التشخيص، يتضح كيف يحرص عصيد على ربط أوضاع تخلف المسلمين بالشرع الإسلامي. إن دولاً إسلامية مثل تركيا وماليزيا وأندونيسا عرفت تقدما وازدهاراً لم تحققه كثير من الدول العلمانية، رغم ما نعلمه من حضور الدين فيها كمؤطر للعلاقات الاجتماعية؛ إذ نجد غالبية مواطنيها متمسكة بالهوية الإسلامية ومنضبطة لتعاليم تشريعاتها. في هذا السياق لا يظهر أن الشرع الإسلامي أعاق مسيرة تقدم هذه الدول ورُقيِّها، فالدين بطبيعته لا يحث إلا على قيم الاستقامة وحفظ الأمانة والإخلاص في العمل وصيانة الحقوق. عصيد لا يراعي هذه الحقيقة ويتغافل عن ذكر نماذج ناجحة من الدول الإسلامية، أو من داخل الأقليات المسلمة المساهمة فعليا في نماء الأوطان التي تعيش فيها، بل نجده لا يتوانى عن تعميم أحكامه على كل المسلمين ودمغهم بالتخلف.

تعميمات عصيد لا تقف عند هذا الحد، بل إنها تطال العقل الإسلامي ذاته، معتبرة إياه كلاً متجانساً يتحدد بخصائص ثابثة دون مراعاة للتنوع الحاصل بين المفكرين المسلمين، وما يمثلونه من قراءات تقليدية وصوفية وإصلاحية وحداثية للدين الواحد. وأما ما يُوجه من انتقادات للفكر الديني التقليدى فيتخذه عصيد فرصة للحديث عن "أزمة العقل الإسلامي وأمراضه المزمنة". فهو: "عقل تحت الوصاية، وصاية الموتى من القدامى إذ لا يستطيع التفكير في استقلالية عمّا قيل وكُتب منذ أزيد من ألف عام". وهنا إذ يرى عصيد أن العقل الإسلامي يرزح تحت الوصاية، وجب تذكيره على وجه التقابل بأنه لا يحق له أن يستثني عقله من ذات التهمة التي يرمي بها غيره، فهو أيضا واقع تحت وصاية الفكر الغربي بإيديولوجياته وقيمه – إنه يرمي الناس بدائه وينسل.

معاداة مبدئية للتراث الإسلامي

تموقفات عصيد القادحة في مذاهب الفقه الإسلامي من خلال سرديات اتهام شاملة لا تخفى على أحد؛ لذا فلا غرابة إذا ما وجدناه يعادي مبدئيا كل ما يمت إلى التراث الإسلامي بصلة، فهو الذي تعلم جيدا درس الحضارة المعاصرة يقول في إحدى مقالاته: "لعلّ أكبر درس تُعلمه الحضارة المعاصرة هو أنه لا أحد يتقدم بالعودة إلى الوراء، لأن التقدم عملية محكومة بالتجاوز لا بالاجترار، وبالنقد لا بالاتباع والتكرار، وبالاكتشاف لا بالعنعنة والحفظ والاستظهار".

هنا نتبين حجم المغالطة التي يروج لها عصيد، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن الحضارة المعاصرة لم تنشأ من فراغ، بل لها أصول ضاربة في القدم، إنها لم تكن لتقوم وتستمر إلا بالنهل من مرجعيات متجذرة في عمق التاريخ! فهل يمكن لنا أن نتصور فلسفة معاصرة دون ما وضعه فلاسفة اليونان القدامى من مبادئ ونظريات في التفلسف؟ هل يمكن لعصيد، هو الذي درَّس مادة الفلسفة في ثانويات التعليم العمومي لسنوات عديدة، أن يتصور درسا فلسفيا دون أفلاطون وأرسطو، دون هيراقليط وسقراط؟ وهل بوسعه أن ينكر أن النهضة الغربية لم تشهد انطلاقتها إلا بعد اطلاع روادها على ما خلفته الحضارة العربية الإسلامية من تراث علمي في مجالات مختلفة (الفيزياء، الكيمياء، البصريات، الطب، الجغرافيا...)؟

في موضع آخر من المقال نفسه، يضيف عصيد: "لا أحد في إسرائيل أو أمريكا يعود إلى فكر أنتج منذ 12 قرنا ليستمر في العمل به واعتماده إلى اليوم". حتى في هذا السياق وجب التنبيه كذلك إلى أن إسرائيل لم تكن لتنشأ إلا بالاعتماد على وعد توراتي ضارب في عمق التاريخ. ثم إن زعماءها الدينيين وقادتها السياسيين ما زالوا على تواصل مستديم بتراثهم اليهودي القديم الذي لولاه لما كانت لهم جذور أو بوصلة. أما أمريكا فقد اعتمدت هي الأخرى في نشأتها على كتاب المسيحية المقدس، مثلما اتخذت تراثها وتراث مؤسسيها الأوروبيين معينا تمتح منه في صياغة حاضرها واستشراف مستقبها.

العلمانية كخلاص

يؤمن عصيد إيماناً يكاد يكون دينيا بالعلمانية كضرورة وخلاص. ولذا فهو لا يُخفي المسعى الذي يعمل من أجله: "ضرورة الفصل النهائي بين الدين والسياسة، بين العقيدة والدولة، لأن الحكامة في تدبير شؤون الدولة الحديثة لا تكون بالعواطف الدينية و"النصوص الثابتة" بل بالعقل والعلم والحنكة والتكوين في علوم العصر". حل عصيد السحري للدخول في الحداثة يكمن إذن في العلمانية. لكننا إذا ما أمعنا النظر قليلا في هذا الحلّ فسنجد أنه قد صيغ في ماضي القرون السالفة، وخصوصاً في عصر الأنوار. إذا كان المسلمون يلتفتون إلى ماضيهم بدافع التمسك بهويتهم، والتماس الحلول لمشاكلهم فعصيد أيضاً يلتفت إلى ماضي غيره، لكن بدافع الانبهار والانبطاح، فهو مفتون بماضي غيره ونتاجه الحضاري، ولا يفتأ يردد تعاليم فلسفة الأنوار الغربية مثل تلميذها النجيب الذي ربى نفسه على تقليدها، حتى إنه صار يمجد قيمها، ويتفاخر بنظرياتها في حماسة لا تخمد.

يستعين عصيد في مقارباته بالتحليل، ويُعمل آليات التفكيك حين يقف على أوجه التناقض بين عقائد الناس الدينية وممارساتهم اليومية، لكنه يدرس هذه المشاكل انطلاقاً من نسق فكري علماني، يقوده إلى الإصرار على العلمانية كحلٍّ، "واضعاً بذلك العربة أمام الحصان! بمعنى آخر، فإن عصيد لم يقُم بدراسة مشاكل هذه المجتمعات "قبل أن يتوصل إلى نموذج العلمانية كحل، بل فعل العكس، فوقع بذلك وكغيره من المثقفين ذوي النزعات التغريبية في المحظور، حيث فتحوا أعينهم ليجدوا حضارة في أوج ازدهارها، فانكبّوا على دراسة نظمها، بعدها عادوا ليحللوا مشاكل ]المسلمين[ على ضوء هذه النظم، متناسين أنهم يظلون سجناء نظريات الغير ]وتموقفاتهم[، وأن هذه الأنساق الفكرية التي درسوها تفرض عليهم ]الإطار المعرفي[ الذي يمكن لهم أن يفكروا داخله، فلا يظهر لهم أي حل خارجها".

ربما لا يعي عصيد أنه لا يمكن اقتطاع جزء من حضارة الغير، ومحاولة استنباته داخل بيئة مغايرة؛ لأن هذا الإجراء محكوم عليه بالفشل، ويأتي في الغالب بنتائج عكسية، وكما قال المؤرخ الشهير أرلوند توينبي في كتابه "العالم والغرب": "إن كل حضارة مثل كل طريقة حياة، هي كل لا يتجزأ، أقسامها متداخلة بعضها ببعض، إن أي عنصر حضاري منعزل يمكنه أن يصبح فتاكاً عندما يكون منفصلاً عن النظام الذي كان جزءاً منه، خاصة إذا ترك المجال أمامه حراً في وسط جديد، أما في إطاره الأصلح فإن هذا العنصر الحضاري لا يستطيع أن يُحدث أضراراً؛ لأنه يكون جزءاً من كل".

ما نعايشه مع عصيد وهو في خريف عمره أن خرجاته الأخيرة صارت تعطي مثالا ساطعا للانقلاب على التنوير ذاته. فهو لا يتوقف عن تسفيه أي رأي لا يوافق مزاجه بل إنه انبرى أخيرا لتزوير تاريخ المسلمين، وتشويه صورته. انتقادات عصيد صارت أقرب إلى التزوير منها إلى التنوير، وأقرب إلى التخريب منها إلى البناء. أما تموقفاته فيطغى عليها الغرور والاستعلاء، ولا تساهم في ترسيخ قيم الحوار على أساس الندية وروح التعايش، كما أنها لا تقبل الاختلاف وتعددية الاجتهادات داخل الوطن الواحد.

ملاحظات أخيرة

يمكننا على سبيل الإجمال أن نسجل بعض النقاط حول المقاربة العصيدية التي لا نجد فيها أثرا لتفكير يراعي تعقيدات الواقع وتشابكاته، بل تبسيطاً في العرض وسطحية في التحليل تستثير لدى القارئ تموقفات غير بناءة يتحكم فيها التشنج والانفعال العاطفي. إن تعاطي عصيد مع موضوع الإسلام وأوضاع المسلمين يجنح في كثير من تمظهراته إلى أسلمة كل مشكل يعاني منه المسلمون إلى حد يصبح فيه الدين العامل المفسر والسبب التبسيطي الوحيد لكل البالايا: التخلف والديكتاتورية والبطالة والعنف والتهميش الاجتماعي والشعور بالحرمان.

إن مطارحات عصيد لا تعدو كونها نابعة من تسخير إيديولوجي، اتخذ من المشروع الإسلامي عدوا لدوداً فسعى بشتى الوسائل إلى النيل منه. كتابات عصيد لا تتأسس على تحليل علمي رصين بقدر ما تعتمد على انتقادات انطباعية تستقي مفرداتها من إيديولوجيا سياسوية أحادية البعد تخدم أجندات علمانية تروم محاصرة الدين في أضيق نطاق وفرض وصايتها عليه.

فضل الله كْسِكْس