إعادة طرح القضايا المرتبطة بالهوية، والعودة إليها بالحماس نفسه وأكثر في كل مرة، مفاده أننا ما زلنا نحتاج إلى أجوبة أخرى نحدد بها موقعنا، ونفهم بها طبيعة انتمائنا الشخصي إلى أنفسنا وإلى هذا الوطن، ومن خلاله إلى هذا العالم.

الحديث عن الهوية، أو ما يسمى كذلك، يستبطن غالبا حديثا عن فقدانها، أو الخوف من فقدانها، ويعبر عن الحاجة إلى أجوبة مقنعة ومشبعة من شأنها أن تخلص الجميع، أفرادا ومجموعات، من هذا القلق الذي يتحول مع الوقت إلى معضلة وجودية، وإلى شك متعب ومزمن.

مبدئيا من حق كل كائن بشري أن يؤمن بوجوده، وأن يجيب عن سؤال من أنا؟ بطريقته ومنطقه الذي يخصه، وأن يبحث له عن مساندين ومشابهين وأعوان، شريطة إعطاء الحق نفسه للآخرين، المخالفين أو المناقضين، وهنا بالضبط يكمن مشكل الحديث عن الهوية ومتعلقاتها، فكل حديث عن الأنا يستضمر بالضرورة رفضا معينا للآخر، ومصادرة لحقه في الوجود بشكل من الأشكال، وبلون من ألوان العنف التي لا حدود لها، والتي تنتقل من العنف الرمزي إلى العنف المادي، ذهابا وإيابا، وبلا مقدمات أحيانا كثيرة، ويشمل ذلك كل ألوان التفكير والتموقعات، ويعم كل الشرائح البشرية من العادية إلى المثقفة، أو ما يسمى كذلك، ما يعني أن أحاديث الهوية أو الهويات وأسئلتها تتحول سريعا إلى صدامات وارتباكات منهجية وسلوكية، ما يؤدي في كل مرة إلى إعادة طرح السؤال نفسه من أنا ومن نحن؟ وإعادة إنتاج الأجوبة نفسها، أو التشنجات والارتباكات نفسها، ما يؤكد في النهاية ضرورة بذل المزيد من الجهد من أجل الفهم والتفهم.

يسهل أن نلقي نظرة عامة على بعض التوجهات الفكرية والسلوكية التي تتفاعل داخل مجتمعنا لنقف على الكثير من أوجه التضارب والارتباك والتفاوت غير المنضبط الذي تبصم عليه، ويمكن أن نميز عموما في بلادنا ما يمكن تسميته بهويتين اثنتين، تتعالقان، وتتخاصمان، وتتبادلان التهم وعبارات النقد والتجريح التي لا تخلو من قسوة أحيانا كثيرة.

الهوية الأولى دينية، إذا جازت العبارة، تميل إلى وضع سؤال الدين في المقدمة، والانطلاق منه لتدبير مجريات الحياة، وكذا الإجابة عن كل الإشكالات والمآزق الآنية والمستقبلية، ويهم هذا المنحى كل الشرائح الاجتماعية المعنية بهذا الاختيار الهوياتي (الديني)، وتتعدد ضمنه القراءات والفهومات والتمثلات، وتتشكل داخله تيارات تتقارب وتتنافر، وقد يبلغ بها الخلاف مبلغا كبيرا، فالسلفية سلفيات، والوهابية وهابيات، والسنية سنيات، ولكل فئة أدبياتها وعلماؤها وفتاواها، أو ما تسميه كذلك، ما يدعو إلى طرح سؤال المنطق الذي يحكم كل هذا الخليط الذي يجمعه الدين ويفرقه الدين في الآن نفسه، فالهوية اختيار مسؤول، والاختيار المسؤول لا يمكن أن يتحول إلى فوضى، وإلى تشنجات وتباعدات، وأحيانا عداوات، ما يعني الحاجة الماسة إلى منطق ومنهج يضبطان هذا الكم الهائل والمتزايد من الهويات الدينية التي تعلن عن نفسها باستمرار، ولا يبدو أنها ستتوقف مادام الأمر يتعلق باختيارات فردية أو جماعية، فإلى أي حد يصح القبول بكل هذا التعدد، وبهذا المعنى؟ وما معنى الانتماء إلى دولة تتضمن بداهة مؤسسات تقوم بدور تقنين وترتيب هذا اللون من الهويات؟ الأمر يتعلق بمؤسسة إمارة المؤمنين، وبمنهجية تأهيل الحقل الديني في بلادنا، وما يقتضي هذا المسار من أدبيات واختيارات دينية يتم الإعلان عنها، والتذكير بها بين الحين والآخر، فلا يمكن الحديث عن الهوية الدينية بلا منطق ناظم، ما دام الأمر يتعلق بدولة لها مسار وسياق، ومؤسسات تضطلع بمهمة تجميع كل هذا الشتات في هوية جامعة، أو يفترض أن تكون جامعة.

الهوية الثانية علمانية، إذا جازت العبارة، ويميل أصحابها، وعيا أو بغير وعي، إلى إبعاد سؤال الدين، وعلاقته بالحياة، ويعتبرون ذلك مكسبا، وما قلناه في شأن الهوية الدينية يصدق هنا أيضا، فالأمر يتعلق بهويات علمانية، أو تريد أن تكون علمانية، تتعالق وتتنافر، تتفق وتختلف، تتقارب وتتباعد، وكلها تدعي أحقيتها بلقب مصطلح "العلمانية"، بالنسبة للفئة المثقفة طبعا، وكلها تزعم احتضانها لمقولات الحداثة والعصرنة وما إليها، وتكيل التهم إلى مخالفيها من أصحاب الهويات الأخرى، الدينية وغير الدينية، وداخل هذا التعدد غير المنضبط، وضمن هذا السياق المرتبك، دينيا وعلمانيا، يتم استدعاء ومناقشة كل القضايا التي تبدو أساسية بالنسبة إلينا، وتأتي على رأسها الديمقراطية (أشكال الحكم وتدبير السلط)، حقوق الإنسان، اللغة وإشكالاتها، وتعمد كل هوية إلى التفاعل مع هذه المقولات وفق منظوراتها وقراءاتها، قبولا ورفضا، فأين المنطق هاهنا؟ وماذا يتبقى من كلمة الانتماء أو الهوية مع كل هذا التعدد في الأحقية وفي الادعاء، ومع كل هذه التفاوتات في الحديث عن الدين وعن العلمانية وتطبيقاتهما معا؟ إن افتقاد المنطق في الانتماء الهوياتي يعني افتقاد المنطق في النقاش العمومي، ما يؤكد الحاجة إلى خيط ناظم يجمع هذا الشتات الذي يولد شتاتا آخر من جنسه.

 

ابراهيم أقنسوس