خلال هذه المرحلة الصعبة التي نجتازها ، ازدادت علاقتنا بالهاتف المحمول ، لدرجة أننا لا ندري من هو المحمول، الهاتف أم نحن المحمولين في الهاتف. حيث أن العدد الكبير من المستعملين الذين لم يدركوا خطورة الهاتف يضعون فيه كل الثقة، فهو خزان للمعلومات من مختلف الأصناف، و قل إنه بكلمة واحدة هو الذاكرة الحقيقية ، إذا ضاع، وهذه احتمال وارد جدا، ضاع كل شيء لدرجة أن صاحبه قد يصاب بالهلع والفزع والفراغ القاتل.

فمن حسن حضنا نحن جيل الستينات والسبعينات وحتى الثمانينات ، أن هاته الأجيال لم تنمو في مراحلها الأولى مع الهاتف ومختلف وسائل الاتصال الحديثة، وكم سيكون صعبا على الأجيال الحالية أن تتأقلم مع التحولات وتفهم ما يجري وتفلت من الاستبعاد والتخدير والتدمير الذاتي للذاكرة البشرية وتعويضها بالذاكرة الاصطناعية، إن حض أجيالنا أنهم كانوا مضطرين إلى استعمال خيالهم وذاكرتهم الشخصية في تدوين المعلومات، على خلاف الأجيال الحالية الذي ولد في ظرفية تحسنت فيها ظروف التعلم لمن فهم كيف يستعمل بشكل إيجابي هذا التطور التكنولوجي من أجل تطوير مهاراته، لكن تأثر إلى حد بعيد خيالهم الطبيعي.

بدون الانترنيت والبرطابل سيكون الضياع وفقدان جزء من الهوية، لا سيما الهاتف الذي يشكل نوعا من الروح التي فتّش عنها الفلاسفة لقرون من الزمن ولم يجدوها ورحلت معهم كل الإشكالات التي أثاروها حتى أن ديكارت أصيب بالصداع النصفي” بالشقيقة” وهو يميز بين الجسد والفكر محاولا رفع الروح إلى مستوى النقاء، باعتبارها ؛ أي الفكر وسيلة لإثبات الوجود عبر الأنا أفكر أنا موجود لكن لما سُئل من الضامن أنك تفكر، لم يتردد في القول أن الله هو الضامن. لقد كان المصريون القدامى، بدورهم، يعتقدون أن هناك ثلاث أشياء: الجسد والروح والمثيل أو النظير، وتقول الأسطورة أن هذا المثيل يلازم الانسان كشبح له أينما رحل وارتحل، أليس البرطابل هو عودة لهذه الأسطورة المصرية من جديد !

لقد أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي فضاء إلزامي للانخراط فيه لإثبات الوجود، وأي ادعاء للمقاومة تؤدي إلى الموت والاستبعاد من الوجود بالمرة ، فليس هناك خيار آخر، إذ لا بد من النقر ( الكليك ) .
أمام حجم هذه التحديات التي فرضت على الناس الارتباط أكثر بالهاتف خلال فترة الحجر الصحي، هل تظنون أن الأمور ستكون سهلة للعودة إلى الحالة الطبيعية بعد الحجر؟

إن أخطر شيء برز في مواقع التواصل الاجتماعي خلال الحجر الصحي هو كثرة الأفكار والشخصيات السلبية التي تأتينا جاهزة من أشخاص أزاحوا بذلات الحياء عن أنفسهم ولم يجدوا أي حرج للعودة بأنفسهم من منتصف العمر أو أكثر، إلى المرحلة التي نعتها سيغموند فرويد بالمرحلة القضيبية، فالشخصية السلبية هي التي تتهافت على نقل الصور السلبية من الواقع وتسعى إلى توزيعها على نطاق واسع، وهدف الشخصية السلبية من وراء التوزيع الشامل للصور والكلمات السلبية هو توسيع نطاق العدوى وفق منطق قوانين الانتقام والثأر ” العين بالعين والسن بالسن “.

حتى لا يظل السلبي لوحده يغرق في سلبيته ، لأنه لا يريد أن يبقى وحده سلبي، ولذلك ينقل العدوى إلى الأخرين، هذا أخطر من وباء كرونا، ويعرف كيف يختار ضحاياه، غالبا ما يكونون من ذوي التجربة المحدودة لذلك فإن هذه الجائحة أخطر من كوفيد 19 لأنها تقتل الانسان عدة مرات في اليوم بالاشاعات والأفكار السلبية..

إن اللغة التي نكتب بها ليست أداة للتواصل كما نظّر لها طويلا نعوم شومسكي، بل هي أداة لتنظيم التفكير لحل الإشكالات المطروحة والمساهمة مع المواطنين من أجل أن يستعملوا عقلهم وحسهم النقدي حتى لا يثقوا بسهولة بكل ما يشاهدون ويسمعون في جو تسيطر عليه الثقافة السلبية، وصاحبها دائما يسعى إلى التفتيش في الأشياء الإيجابية لكي يجد السلبي ويقوم بتهويله.

فاحذر من نفسك وخصوصا من هاتفك، لا تدع الأشخاص التافهين ينغصون حياتك فإنهم يريدون أن لا تنام وأن تبقى ساهرا طيلة الليل من أجل اللاشيء ، وأن تدمر حياتك بماض انتهى وانقضى ولم يعد لنا ، ومستقبل مازال لا يزال ليس لنا ، فالذي نملكه هو الحاضر علينا أن نعيشه بتفاؤل وعزم وصبر وإرادة من أجل الأحسن.

بقلم علي بلمزيان