فتحت الأزمة الليبية وتداعياتها المختلفة الباب لحديث قد يراه البعض مثيرا للشفقة، ويراه آخرون منبعا للفتنة. في الحالتين هو حديث يستحق التوقف عنده بلا مواربة، فما يسمى بالمشرق والمغرب العربي عاد ليطل برأسه على ضوء تبني بعض الدول موقفا يكاد يكون مضادا لدول أخرى حول ما يجري في ليبيا.

هناك تماس إيجابي في بعض النقاط، وتباعد في غالبيتها، ولهجة الإنحياز تبدو طاغية في بعض الأحيان، ما يجعل التصنيف واقعيا أو أقرب إلى ذلك، حيث يستخدم الخطاب الصاعد مفردات مفتعلة، وربما يكون من يستخدمونها لا يدرون حجم التأثيرات السياسية، ويتعمدون التوظيف بنعومة لاستعادة شرخ كفيل بنشر المزيد من الشقاق.

يستفيد من يلجأون إلى العزف على هذا الوتر من نواحي عدة، ويجنون مكاسب عندما يتمكنون من رفع مستوى التناقضات في البيئة العربية الكفيلة بمنع التفاهم أو الالتفاف حول أجندة نقية ومتقاربة بشأن تسوية الأزمة في ليبيا، على أساس وحدتها واستقرارها ومنع التدخلات الخارجية ووقف تدفق المرتزقة والإرهابيين عليها.

تعود فكرة التقسيم بين مشرق ومغرب لعقود طويلة، وأخذت أبعادا جغرافية في البداية، ثم اصطبغت بنواحي ثقافية، إلى أن تكرست المكونات السياسية مع مرور الوقت، وقد يتجاهل البعض الخطر البازغ والتهوين منه، لكن تراكمات الماضي بدأت تفرز واقعا يشير إلى ارتفاع درجات التباين في المواقف في عدد من القضايا السياسية، ولم يعد هناك خجل في مداراة المواقف، والأكثر خطورة أن الفجوة بدأت تتجلى داخل الدولة الواحدة مما يجري في ليبيا.

علاوة على عدم الانسجام التام بين دول كل فريق، فهناك مسافات عميقة بين الجزائر والمغرب مثلا، وبين مصر وسوريا أو العراق، في مراحل حالية وسابقة، واضحة ومستترة، لا تغيب على من خبروا آليات التعامل العربي وألاعيبها السياسية.

بقيت ليبيا كأنها في منتصف الطريق بين المشرق والمغرب، يتراوح هواها السياسي بين الجانبين دون أن تلغي انحيازاتها أحيانا إلى هنا أو هناك، وعندما لم تجد نفسها في أي من المعسكرين بحثت عن معسكر ثالث (الأفريقي) في عهد العقيد الراحل معمر القذافي، وهو الدائرة التي بذل جهدا كبيرا لتأكيد الانتماء لها ومحاولة قيادتها لمشروعه الخاص بالولايات المتحدة الأفريقية وجرى وأده قبل أن يشق طريقه.

فتّح أبناء جيلي أعينهم على فروقات بين المشرق والمغرب، بعضها مصطنع والآخر حقيقي، إلى أن صدم بتطورات عسكرية وسياسية متلاحقة أكدت أن الفواصل غير دقيقة، أو يمكن إذابتها عندما تتوافر العوامل التي تساعدها على الفهم وفك طلاسمها، فالوحدة الوجدانية كامنة وتنتظر قضية قومية أو قائد يستخرج منها مقومات قوتها.

كان تفاعل الدول المغاربية مع الأحداث المشارقية كبيرا، في القضية الفلسطينية، وحرب أكتوبر التي خاضتها مصر وسوريا ضد إسرائيل، والغزو العراقي للكويت، والعكس غير صحيح، لأنها ملفات ذات طابع يمس جانبا من العروبة المتأصلة في المغاربة، كما أن القضايا على الضفة المقابلة غالبيتها ثنائية، تحاول الدول المشارقية تجنب الانخراط فيها، لأن طرفيها عربيين، ولدى كلاهما خطاب جذاب ومحرج.

بدت المساهمات الثقافية والإعلامية على الجانب المغاربي تزدهر على نظيرتها في المشرق، الأمر الذي تجلى في حضور النخبة ونوعيتها ودورها المؤثر، وظهرت تجليات ذلك بوضوح على الصعيد الفكري والفلسفي.

ارتاحت التوجهات المشارقية لحصر الفجوة في هذا الشق، ولم تحاول توسيع نطاق القراءة الرصينة في المجالات الأخرى، مع أن الإسهامات السياسية كبيرة وفاعلة في المحطات المصيرية، لكن الأفكار النمطية واستسهال التصنيف كان غالبا.

عادت جدلية المشرق والمغرب بدون اتفاق إلى الواجهة مع اندلاع الأزمة الليبية، وتحاول تركيا التي تلعب دورا كبيرا في تطوراتها الاستفادة من معادلة الفواصل البينية، وعملت لأجل توسيع التحركات على وقعها ولم تعلن ذلك صراحة، لكن وجدت في مضمونها صيغة تمكنها من التسلل إلى ليبيا وما بعدها.

تسهم الخميرة الاسلامية الموجودة في كل من تونس والجزائر والمغرب، والمدعومة من قطر، بدور في تشجيع تركيا على توظيفها سياسيا، لأن هذا التيار له حضور في السلطة وعلى هامشها، ويتغذى على الاختلاف، ويجد في أي تقارب عربي تهديدا لطموحاته التي تنامت مع قوة الانتشار العرضي الذي تحققه أنقرة في المنطقة.

على الرغم من أن الأزمة الليبية أكبر من كونها ركيزة تجاذب بين المشرق والمغرب، لكن هذه الحسابات لم تغب على أذهان كثيرين، لأن الضفة المغاربية ودولها أكثر تماسكا من المشرقية التي تعاني من اختلالات هيكلية وانقسامات وحروب وصراعات قضت على تماسك بعض القوى التقليدية.

تحاول القوى الاسلاموية تكريس الهوة المعنوية في مسألة التباعد بين الضفتين في رمزية بالغة الحساسية وكي تتمكن تركيا من ترتيب أوراقها بصورة تجعلها الرقم الإقليمي الوحيد المتحكم في زمام أمور عديدة، فالكتلة الصلبة في الدول المغاربية يمكن أن تتأثر بالتداعيات التي تفرزها الساحة الليبية في محيطها الإقليمي، خاصة إذا تنامي التيار المناهض للوجود التركي في ليبيا، وتبلورت ملامح قوية لوقف نموه.

ضاعف وقوع ليبيا الجغرافي في منتصف الطريق بين المحيطين من حدة التجاذبات، وعرّقل جهود حل أزمتها المتفاقمة، ولذلك يبدو التصعيد المستمر ومحاولة توزيع ارتداداتها على الدول المغاربية أحد الرهانات الرامية لنقل سيناريو التفتيت الذي حقق تقدما لافتا في المشرق، ولا تزال أشباحه تخيم على أخرى في المغرب.

يمكن أن تكون الأزمة الليبية عنصر توحيد بدلا من أن تصبح عامل تفرقة، لأن انعكاساتها تتجاوز فكرة انتصار طرف سياسي على آخر داخلها، والذي يتخذ أيضا من رمزية الشرق والغرب عنوانا كدلالة تحفر فيها رأسيا التنظيمات المتطرفة ومعها تركيا، ويمكن أن تتحول إلى فخ حقيقي لتكريس التباعد بين المشرق والمغرب العربي، فما تحقق في البعد الأول ليس صعبا الاقتفاء به في البعد الثاني.

يقود التعامل العاقل مع الأزمة الليبية إنطلاقا من التنسيق والتعاون العربي إلى فك شفراتها الغاضة، وهدم أول طوبة في حائط من يريدون شرذمة الجانب المغاربي والتخلص من سبيكته الوطنية التي درجت على التعايش لحقب طويلة وقطع الطريق على محاولات تفكيك اللحمة السياسية لحساب تأجيج النعرات الجهوية والعرقية.

محمد أبو الفضل