قد يبدو هذا العنوان، لغير المطلع.. غريب أشد غرابة؛ وقد يتساءل مع نفسه هذا التساؤل: كيف يمكن لمقررات قضائية صادرة عن محاكم أن تسهم في تفشي الجريمة، بينما الواقع يفرض عليها ويلزمها تحقيق ردع عام وخاص يكونان كافيين لتحقيق أمن قضائي، يطمئن إليه سواء المتقاضي أو المواطن بصفة عامة؟؟؟

غير أن (تتبع) بعض من هذه المقررات القضائية: أوامر، أحكام، قرارات، صادرة عن جل محاكم البلد تقريبا، في بعض الجرائم، خاصة الجنحية منها، لا شك أنه سيلمس جوابا عن هذا التساؤل. إنه سيتوصل إلى حقيقة قاطعة، مفادها أن بعض المقررات فعلا تشجع إن بشكل أو بآخر على آرتكاب مزيد من الجرائم، سواء من طرف من سبق لهم أن قًدموا للعدالة(أو ما يطلق عليه حالة العود في القانون)، أو من طرف من تيسر لهم معرفة أن آرتكاب جريمة معينة، قد لا يترتب عليه أية عقوبة، وأنه بمجرد ما تنتهي مدة الوضع تحت الحراسة النظرية، على أبعد تقدير، مباشرة سيتم إطلاق سراحه.

فعلى سبيل المثال لا الحصر، نجد في جنح القتل غير العمد الناتجة عن حادثة سير، التي يرتكبها حدث يقل عمره عن 18 سنة، ولو كان ارتكابها مقترنا بظرف من ظروف التشديد، كعدم التوفر على رخصة سياقة مثلا أو أنه كان في حالة

سكر أو تخدير، فإن قاضي الأحداث قد يأمر مباشرة، وبكل برودة دم، بتسليم القاصر الجانح إلى ولي أمره، إن وجد طبعا، على الرغم من خطورة الجرم المقترف.

أما عن ذوي حقوق ضحايا هذا القاصر، الجانح، سوف لن يكون أمامهم سوى التأسف والتحصر على مصابهم. ولهم إن أرادوا، الحق فقط في التقدم أمام المحكمة بمطالب مدنية في مواجهة المسؤول المدني وكذا شركات تأمين(هذا إن كانت تلك الناقلة مؤمنة من الأصل)، لتحكم لهم في الأخير بتعويض هزيل جدا. أما إن كان الضحايا أحداث هم أيضا، فإن تعويض آبائهم تعويضا معنويا فقط، فسوف لن يغطي حتى مصاريف الجنازة.

ولعل هذا( تعويض ضحايا حوادث السير) في حد ذاته، يعتبر هو أيضا موضوعا مسكوتا عنه. رغم أن أودية حبر سالت من أجل تعديله، غير أنها ذهبت سدى؛ والكلمات التي كتبت بهذا الحبر، لم تفتأ أن ذهبت أدراج الريح. لا لشيء إلا لأن هناك لوبي قوي، إسمه شركات التأمين، لا تهمه سوى مصالحه.

إن ما تشترطه فصول الظهير المنظم للتعويض عن حوادث السير التي تتسبب فيها عربات ذات محرك، وما تلزم به، يعتبر حيفا ما بعده حيف. فروح إنسان، أضحت بمفهوم هذا الظهير، رخيصة، زهيدة، لا تساوي إلا دراهم معدودة. بينما الرابح الأكبر من هذا كله، يبقى طبعا هو لوبي شركات التأمين. إذ كيف يعقل أن ظهير عمّر لردح من الزمن، يعود زمنه إلى أزمنة غابرة، إلى سنوات الجمر، ومع ذلك لم يستطع أحد حلحلته عن سكته الصدئة؟؟

إن قاضي الأحداث في الجريمة المذكورة أعلاه(جنحة القتل غير العمد الناتجة عن حادثة سير يرتكبها حدث) يلجأ إلى مثل هذه التدابير(مثلا: تسليم الجانح إلى وليه)، على الرغم من أن المادة 172 من مدونة السير على الطرق تنص صراحة على توقيع عقوبة سالبة للحرية على مرتكب حادثة سير مميتة؛ من 6 أشهر إلى 5 سنوات وبغرامة.. وترفع إلى الضعف إذا ما اقترن ارتكاب الحادثة بظرف من ظروف التشديد التالية:

1- إذا كان الفاعل في حالة سكر أو تحت تأثير الكحول أو تحت تأثير مواد مخدرة.

2- إذا كان الفاعل تحت تأثير أدوية تحظر السياقة بعد تناولها.

3- إذا تجاوز السرعة القصوى المسموح بها بما يعادل أو يفوق 50 كلم في الساعة.

4- إذا كان غير حاصل على رخصة السياقة أو على الصنف المطلوب لسياقة المركبة المعينة.

5- إذا كان يسوق مركبته خرقا لمقرر يقضي بسحب رخصة السياقة أو بتوقيفها أو بإلغائها.

6- إذا ارتكب إحدى المخالفات التالية:

أ- عدم احترام الوقوف الاجباري المفروض بضوء تشوير أحمر

ب- عدم احترام الوقوف الاجباري المفروض بعلامة " قف".

ت- عدم احترام حق الاسبقية

ث- التوقف غير القانوني ليلا ومن غير إنارة خارج تجمع عمراني

ج- عدم توفر المركبة على الحصارات المحددة بنص تنظيمي.

ح- السير في الاتجاه المعيب

خ- التجاوز المعيب

د- إذا لم يتوقف رغم علمه بأنه ارتكب حادثة سير أو تسبب في وقوعها أو غير حالة مكان الحادثة، محاولا بذلك التملص من المسؤولية الجنائية أو المدنية التي قد يتعرض لها.

ومردّ هذا، أو العلة في هذا، ما هو منصوص عليه في الكتاب الثالث من قانون المسطرة الجنائية، الذي تتم مراعاة مقتضياته كل ما تعلق الأمر بحدث يقل عمره عن 18 سنة.

والمادة 471 من قانون المسطرة الجنائية تُعدّد هذه التدابير وتحصرها في الآتي:

تسـليـــمـــــه:

1- إلى أبويه أو الوصي عليه أو المقدم عليه أو كافله أو إلى حاضنه أو إلى شخص جدير بالثقة.

2- إلى مركز للملاحظة

3- إلى قسم الإيواء بمؤسسة عمومية أو خصوصية معدة لهذه الغاية

4- إلى مصلحة عمومية أو مؤسسة عمومية مكلفة برعاية الطفولة إو إلى مؤسسة صحية بالأخص في حالة ضرورة معالجة الحدث من التسمم.

5- إلى إحدى المؤسسات أو المعاهد المعدة للتربية أو الدراسة أو التكوين المهني أو للمعالجة التابعة للدولة أو لإدارة عمومية مؤهلة لهذه الغاية أو إلى مؤسسة خصوصية مقبولة للقيام بهذه المهمة.

6- إلى جمعية ذات منفعة عامة مؤهلة لهذه الغاية.

ولقاضي الأحداث، إذا ما تعلق الأمر بجنحة، اتخاذ تدبير أو أكثر من هذه التدابير المذكورة، يراه ملائما في حق الحدث الجانح.

غير أنه بالإضافة إلى هذه التدابير، التي لا ترقى بأي حال من الأحوال إلى عقوبة، فإنه قد تم التنصيص أيضا على إمكانية وضع الحدث الجانح بمؤسسة سجنية، لكن إلا إذا كان هذا التدبير هو في حد ذاته يبقى ضرورة.

لكن رغم هذا، فالقرارات القضائية التي تصدر في شأن جريمة قتل غير عمدية ارتكبها حدث سنه أقل من 18 سنة، أغلبها يتضمن أمرا بتسليم الحدث إلى ولي أمره رغم خطورة الجريمة ولا تلتفت أبدا إلى العقوبة السجنية.

وهنا، قد يطرح تساؤل، حول أي القانونين يجب تطبيقه. هل مدونة السير على الطرق باعتبارها قانون خاص أم ما جاء في الكتاب الثالث من قانون المسطرة الجنائية من مقتضيات؟ أم أنه يجب تطبيق الأولى لكن مع مراعاة فقط ما جاء في الثانية؟

للجواب على التساؤل ينبغي أولا استحضار قاعدة قانونية صرفة، تفيد بوجوب تقييد الخاص للعام، أو بمعنى آخر، الخاص يقيد العام. وبآعتبار أن هذه القاعدة القانونية قاعدة ملزمة، فإن الأولى هو تطبيق مدونة السير، كونها خاص، بدل تطبيق ما جاء من مقتضيات في الكتاب الثالث من قانون المسطرة الجنائية التي تعتبر عام بالنسبة للأولى. ولعل هذا هو السبب الذي حدا بالمشرع بإضافة لفظة دقيقة هي: مراعاة. أي تطبيق ما جاء في مدونة السير لكن مع مراعاة فقط ما جاء في الكتاب الثالث من قانون المسطرة الجنائية.

وإذا كان اللبس قد زال هنا، عن من هو ألزم بالتطبيق، هل مدونة السير على الطرق أم مقتضيات الكتاب الثالث من قانون المسطرة الجنائية، فإنه على أرض الواقع وما هو عملي يوجد عكس ذلك. وهو ما يشكل خرقا سافر لهذه القاعدة.

ولعل هذا يوضح جيدا، كيف تتاح الفرصة لمن أزهق روحا بريئة للإفلات من العقوبة رغم خطورة جريرته.

إن أخطر ما في هذا الأمر، هو أن مثل هذه المقررات، في هكذا جرائم، سيترتب عنها العديد من الآثار. ليس على عائلة الضحايا وحسب، وإنما على المجتمع بأسره. فعدم معاقبة مرتكب حادثة سير، مميتة، من طرف حدث، خاصة إن كان مميزا، وكانت الحادثة مقترنة بظرف من ظروف التشديد، فذاك يعني أنه ستصبح لدى هذا الحدث مرتكب الجريمة قابلية لآرتكاب جرائم أخرى. وما يفسر حالات العود الكثيرة الموجود على أرض الواقع لدى هؤلاء، لهو أوضح دليل على هذا القول. إن الذي لم يُعاقب على جريمة قتل، ولو كانت غير عمدية، قد يتشبع من ناحية نفسية بقناعة تامة بعدم وجود حساب وعقاب. وسيدفعه إلى احتقار أرواح ناس؛ وكل ما يحيط به، سوف يصبح مهددا بخطر قائم.

ومن جهة أخرى، فإن مثل هذه المقررات القضائية التي تقضي بتسليم أحداث جانحون إلى أولياء أمورهم، تجري بين الناس مجرى الدم في الأوردة والنار في الهشيم. إن كائن ما كان، إذا هو أحاط علما بمثل هذه المقررات القضائية، سيقتنع آقتناعا تاما بأن إزهاق روح إنسان أضحى فعلا مباحا لا يعاقب عليه قانون. إذ يكفي إغراء قاصر يقل عمره عن 18 سنة، لا يهم إن كان يتوفر على رخصة قيادة، بقيادة عربة ما ذات محرك وتوجيهه في غفلة منه نحو وجهة معينة تنتهي بإزهاق أرواح بريئة. هذا دون أن ينسى تذكيره بعدم ذكر إسمه في هذه القضية، وبإنكار أي صلة تربطه به، حتى لا يتم تكييفها جناية. وإن سؤل عن من سلمه تلك الناقلة، يقول إنه أخذها من تلقاء نفسه دون إذن صاحبها.!!! وهكذا سوف يفلت الإثنين معا من العقاب. صاحب الناقلة أو المسؤول المدني، لزعمه أخذ ناقلته دون علمه. والحدث الجانح، لصفته هذه، التي تجلب له رحمة جنان قاضي، وصف أنه قاضي أحداث، فيأمر بتسليمه إلى ولي أمره، ناسيا هذا القاضي أو متناسيا ما تسبب فيه هذا الحدث من ألم فظيع وحزن عميق لذوي الضحايا.

إن هذا المثال الذي سيق هنا، أي ارتكاب حادثة مميتة من طرف حدث مع إفلاته من العقاب، ما قيل فيه يقال في أمثلة أخرى في جرائم أخرى. وما آرتفاع نسبة الجريمة إلا دليلا قاطعا على هذا القول. فقد تكون هناك عقوبة في بعضها، غير أنها لا تصل إلى حد كاف لتحقيق ردع كاف. ويكفي أن يذوق المجرم (حلاوة) الإعتقال أول مرة، ونشوة زخم المحاكم

والمرافعات، وتضامن عائلته معه بشتى الوسائل..حتى يتصالح مع ذاته العميقة، فيصبح بالتالي مهيئا لآرتكاب أية جريمة.. حقا إن هذا لواقع معاش، تدركه العقول ويُرى بالعين المجردة.

إن القانون وأي قانون إن لم تظهر بصمته على أرض الواقع بتحقيق الغاية والهدف منه، إنه ليس بقانون وحسب، وإنما هو كمثل وصفة دواء وصفها طبيب لمريض بمرض ما، وبدل أن يتحقق الشفاء منها، تفاقمت على إثرها حالة المريض فزاد مرضه سوء على سوء. قد لا يكون القانون هو( المتهم) هنا، إن صح التعبير، ولكن قد يكون (المتهم) أو العيب كل العيب في تطبيق هذا القانون. إن قراءة بسيطة ولو من غير مختص، لما تزخر به القوانين على آختلاف أشكالها وأنواعها وكيف أنها لم تترك حقا من الحقوق إلا وتعرضت له، لا مراء من أنه سيتصور أن الأرض التي تطبق عليها هذه القوانين بأنها جنة على الأرض من ناحية الأمن والآمان ومن ناحية صون الحقوق والحريات على اختلافها. لكن على أرض الواقع، قد يصاب بدهشة حين يقف على كمّ الجرائم المرتكبة وعلى كمّ الحقوق والحريات المهدورة.. وقد يخرج بقاعدة عامة، مفادها أن ما هو مكتوب ليس بالضرورة يعبر على واقع ما. وأنه مهما كان نوع القوانين المطبقة، سواء أكانت رديئة أم غير رديئة، مكتوبة أم عرفية، كثيرة أم قليلة، شاملة أم غير شاملة.. فإن الحق يؤخذ ولا يعطى.



عبد الغاني بوز