كانت قاعة المحكمة سادرة في صمتها المهيب عندما ولج إليها السيد القاضي بمعية مستشاريه. حيّا بابتسامته المعهودة محاميي طرفي القضية والطاقم الصحفي الذي جاء لتصوير وقائع الجلسة التي كانت ستبث على أمواج الإذاعة وشاشات التليفزيون. كان ذلك إجراء وقائيا من الإجراءات التي فرضتها جائحة كورونا.

افتتح السيد القاصي الجلسة باللازمة المعهودة، ثم أثار لب إشكال القضية في التساؤل التالي: هل سيكون الكبش حاضرا في مشهد العيد أم لا؟ أعطى الكلمة لمحامي الفريق الأول الداعي للتضحية بالخراف يوم عيد الأضحى، الذي قال: "سيدي القاضي المحترم، سادتي المستشارين، الجميع يعلم أن كورونا اللعين ألحق بنا أضرارا جسيمة، فقد حرمنا من شيء اسمه الفرح وألقى بنا في أتون الاكتئاب والاضطرابات النفسية التي لا حصر لها، ولسنا مستعدين للتنازل عن فرحة العيد، إذ لا عيد بدون أضحية. ماذا سنقول للأطفال الذين يريدون أن يتملوا بطلعة الكبش البهية، ويحاورونه عن قرب ويلتقطون معه صور سيلفي للذكرى؟ وماذا سنقول للمستضعفين والفقراء الذين لا يتذوقون طعم اللحم إلا في موسم العيد؟".

يتدخل محامي الفريق المعارض قائلا: "أعترض سيدي القاضي، فزميلي يلعب ورقة دغدغة المشاعر، ونحن أمام خطر محدق لفيروس كورونا الذي أرعب العالم ونكّل بالشعوب، فكيف نسمح بذبح الأضاحي، وهذا الفيروس ما زال يتجول بين ظهرانينا، إن الازدحام في الأسواق وحركية التنقل بين القرى والمدن والأقاليم والجهات سيمنح له فرصة مواتية ليعصف بنا أكثر فأكثر، سنكون أهدافا مكشوفة بالنسبة له، ومن يدري ربّما ستنتقل عدواه من الإنسان إلى الحيوان فتكون بذلك الطامة الكبرى".

ينهض محامي الطرف الأول ويقول: "سيدي القاصي، الطامة الكبرى هي أن إلغاء الأضحية سيضر باقتصادنا الذي بدأ مرحلة التعافي الأولي، فقطاع كبير من المواطنين يعيشون على مداخيل الأضاحي: منهم الفلاحون، والكسابون، و"الشنّاقة" والحمّالون وأصحاب وسائل النقل بكافة أنواعها، وممتهنو الحرف الموسمية المتصلة بالعيد.

سيدي القاضي، لقد عانى الجميع اقتصاديا من الحجر الصحي، وإذا تم إلغاء هذه الشعيرة الدينية المدرّة للدخل، فان شرائح كثيرة من المجتمع ستتضاعف معاناتها أكثر فأكثر".

محامي الطرف الثاني: "سيدي القاضي المحترم، سادتي المستشارين، ألم ننطلق في استراتيجيتنا منذ البدء في تقديم صحة المواطنين على الاقتصاد؟ ألم نجعل النظافة من أهم أولوياتنا في هذه المرحلة الحرجة، فكيف سيكون حال أزقتنا وشوارعنا؟ ستصبح لا محالة في أيام العيد مطارح للنفايات والقمامة. ألا يمكن أن يسهم ذلك في تسريع وتيرة العدوى وانتقال المرض؟ إن زميلي يريد بنا أن نرجع خطوات إلى الوراء بعد أن قطعنا مراحل مهمة في حربنا ضد كورونا، فإذا كنّا قد صبرنا إلى اليوم فما الذي يضيرنا أن نصبر أكثر حتى نصل إلى المبتغى ألا وهو الحد من انتشار هذا الوباء المستشري؟".

محامي الطرف الأول: "سيدي القاضي، سادتي المستشارين، إن نفسيّتنا قد وصلت للحضيض، وهذا الفيروس اغتال أفراحنا وحرمنا من الكثير من المتع: انتزع النوم من أجفاننا، أفقدنا الشهية للأكل، قلب مواعيدنا رأسا على عقب، وألغى من قواميسنا كل شيء يمت بصلة لراحة البال والسعادة، حتى شعائرنا الدينية لم تسلم من تأثيراته: لقد مرّ شهر رمضان كئيبا وكذلك عيد الفطر، والمساجد أوصدت أبوابها، ولسنا مستعدين للتفريط في فرحة الأضحى التي لن تتم ألا بذبح الأضحية".

يتدخل القاضي بنبرة فيها نوع من الشدة: "وماذا تقترح سيادتكم في هذا الشأن؟". يجيب محامي الطرف الأول:

"ننظّم أسواقنا ونشدّد من إجراءاتنا الوقائية ويشتري كل منا خروفه في أمن وأمان." يصرخ محامي الطرف الثاني: "هذا مستحيل سيدي القاضي، لا يمكن أن نتحكم في حركية الأسواق في مثل هذه الظروف، ستكون كارثة سيدي القاضي، وليعلم زميلي أن ديننا مبني على اليسر، وهناك قاعدة فقهية تقول: إن الحفاظ على الأبدان مقدّم على الحفاظ على الأديان. فلا أرى بأسا إن نحن أرحنا أكباشنا هذه المرة واسترحنا. أما مسألة احتجاج زميلي بالمعطى الاقتصادي، فأنتم تدركون أن الطبقة الوسطى في معظمها ومعها الطبقات الفقيرة والمستضعفة لن يكون بمقدورها أن تتحمل نفقات العيد، وهي التي تضرّرت قدرتها الشرائية بشكل كبير، وبعد انصرام شهر أو يزيد ستكون في مواجهة نفقات الدخول المدرسي، أمّا عطلة الصيف فلا أحد يدري محلها من الإعراب".

وفي الوقت الذي لوّح فيه محامي الطرف الأول بيده معترضا، وقبل أن يتدخل القاضي لمنعه من الكلام، سمع على باب قاعة المحكمة جلبة كبيرة، دخل على إثرها كبشان أقرنان مليحان، اقتربا من القاضي فقال الأول: "سيدي القاضي، سادتي المستشارين، جئت ممثلا لزملائي الأكباش فلتتفضل وتسمح لي بكلمة قصيرة"، وافق القاضي مذهولا فقال الكبش: "أنا وزملائي مستعدون للتضحية لأننا نذرنا أنفسنا للفداء، ونحن لا نقلّ عن بني الإنسان إيمانا ورغبة في التقرب إلى الله، وبالتالي فنحن مع الفريق الأول".

رفع الكبش الثاني رجليه الأماميتين وقال: "سيدي القاضي، أما أنا وزملائي الآخرون فنأمل أن نستفيد من حالة الطوارئ هاته، فلا تذبحونا في يوم العيد، اتركوا لنا فسحة علّنا ننعم بأيام أو شهور تزيد في أمد عمرنا القصير".

تملّك القاضي الوجوم وبعد برهة رفع الجلسة للمداولة، ولمّا عاد كان الانكسار والحيرة باديّان على محياه وبالكاد استطاع أن ينطق:

"أصارحكم القول بأنني طيلة مساري المهني لم تصادفني قضية شائكة مثل هاته، لذلك سأقضي بعدم الاختصاص وسأحيل القضية على حكومة السيد العثماني لتقول فيها الكلمة الفصل، ولها واسع النظر، رفعت الجلسة".

كل عيد وأنتم بألف خير.

 

علي كرزازي