دخلَ العالمُ غرفةَ عزلٍ للنجاة من عدوٍ غير مرئي، هاجمَ على حينِ غرّة فأوقفَ الحياةَ وأوصدَ الأبوابَ وأغلقَ الفضاءاتِ، مانحاً للطبيعة والإنسان فرصةً لم تتح لهما من قبل لإعادة الحياةِ والتأمل في علاقتهما وأثر بعضهما على بعض. فكيفَ خرجَ المجتمع خاسراً من معركته ضد الأوبئة القديمة المتجددة؟ وكيف لم يستطع الحجر الصحي والعزل التام أن يغيرا عادات المجتمعات؟ ولماذا لم يستثمر المجتمع فرصة العزل ليعيد النظر في تصرفاته وأفكاره وأحكامه وعاداته؟ أسئلة كثيرة يطرحها واقع الناس بعد العودة إلى الحياة التي يقال عنها طبيعية وهي غير ذلك.

قيلَ في البداية إن العادات غير السليمة للمجتمعات مردها إلى تأثير الحياة التي يعيشها الأفراد، عاداتٌ نشأت عن طبيعة حياة تقومُ على الاستهلاكِ والسرعة والسعي للربح المادي وكسبِ مزيدٍ من الوقت في زمنٍ لا يعرف التوقف. فصار بذلك الإنسانُ مجرداً من قيمه اللامادية، قيم أخلاقية واجتماعية وإنسانية. فجاء الوباء الذي أطلق عليه كورونا ليغير الموازين ويضع كلّ شيء أمام اختبار الصمود كاشفاً بذلك عيوب حياة الإنسان الطبيعية. فكيف خرجَ المجتمع خاسراً في معركته هذه؟

اهتمت المجتمعات بحماية أنفسها وأجساد أفرادها من الإصابة بعدوى الفيروس، غافلة عن الفرصة الذهبية التي منحتها الطبيعة للإنسان ليتخلص من تراكمات العصر الحديث والحضارة وما تنتجه الحياة العصرية من أدران وشوائب لم يستطع البشر التخلص منها والشفاء من أمراضٍ كثيرة ورثتها الأجيال ونقلتها عبر العادات والتصرفات حتى صارت أمراضاً وآفات كسب الإنسان مناعة ضدها فعاش بها وعاشت معه دون أن تؤثر فيه.

من هذه الأمراض الشتى التي فضحها وصول كورونا وتهافت الناس للنجاة منه، نذكر مقدار الجهل الذي أظهره وصول الفيروس؛ بحيث سعى كلّ فرد للنجاة بجلدته دون أن يهتم بغيره، وأسرع الأفراد بأنانية كبيرة للحصول على مؤونة تكفيهم لفترة طويلة، بينما بقي الفقراء والضعفاء دونَ سندٍ لم تسعفهم أياديهم القصيرة في الوصول إلى متطلبات الحياة.

وكانَ للأغنياء رأي آخر؛ حيثُ إن أثرياء العالم هرعوا راكبين اليخوت الفخمة والطائرات الفارهة نحو أقاصي الجزر يبغون فيها ملجأ ومنجى يقيهم شرّ الهلاك. في حينِ خرجَ العاقلون وهم القلة القليلة بنداءات التضامن خروج الفرسان الشجعان معلنين أن العالم بحاجة إلى التضامن والمؤازرة. إلا أن صوتَ العقل الذي غيب لسنوات لا يمكن أن يحيه هاتفٌ يصيح في الضمائر الصدئة لينفض عنها غبار الرواسب بين عشية وضحاها، وذاك أمرٌ غير يسير.

كانَ على المجتمع أن يقف وقفة إنسان وضمير واحد، أن يستغل الفرصة ليحيي الضمير الميت ويعيدَ الصوت للعقل، غير أن ذلك حلمٌ بعيدُ المنال. فما إن دخل الناس جحورهم كما تدخل الدببة في سباتها الشتوي حتى استعادت الطبيعة حسب العلماء نفسها، وتنفست الصعداء بعد ثقلٍ أنهكها وهي تحمل أثقال الإنسان وتزرُ أوزاره. فكان لها حيز من الوقت دام أشهراً لتستعيد قدرتها على الصمود وتنتشي بهذه الفرصة التي منحت لها لتستعيد الحياة. بينما استمر الإنسان في إبداع طرقٍ جديدة ليحافظ على عاداته وأساليبه في الحياة المعقدة التي يعيشها وهو حر.

إن زمن كورونا قدّم دروساً في الحياة، وأعطى للمجتمعات فرصة لاستيعابها والتأمل فيها والخروج بأفكار جديدة تستفاد من تجربة حياة الحجر الصحي. كأن يتخلص الإنسان من عاداته الاستهلاكية التي ورثها من منظومة اقتصادية ترى في البشر آلة استهلاكية مبرمجة على الحصول على متعة عابرة مقابل أن تنتج ثروة مادية.

أضف إلى ذلك عجز العالم عن التوقف لدقيقة واحدة عن إنتاج مخلفاتٍ تؤثر في البيئة وتدمر الطبيعة، وبالتالي تعود عليه بأمراض وسموم قاتلة. علاوةً على ما ينخر أنفس البشر من أمراض غير مرئية كالجهل والأنانية وسوء تقدير النعم التي يتحصل عليها من الطبيعة، وحرصه الشديد على التمسك بحياة سريعة تتزايد سرعتها يوماً بعد يومٍ، غافلاً عن أن لذة الحياة تكمن في بساطتها وقدرتها على أن تحافظ على علاقة جيدة بالمحيط والطبيعة. فقد كشف كورونا أيضا هشاشة النظام العالمي القائم على المال والثروات المادية، وكشف زيف العلاقات الإنسانية المبنية على الصراع والمنافسة. فما هي الدروس المستفادة من زمن كورونا؟

كانَ على البشر أن يتوقف وقفة تأمل، وأن يقف وقفةً يواجه فيها نفسه ويعيد فيها النظر في منظومة خلقها بنفسه وأبدع في خدمتها حتى صارت عاداته عباداتٍ، وصار تقليده إدماناً وحرمانهُ منها يسبب قلقاً واضطراباً. بينما كانَ الحجر الصحي والعزل فرصة للتعلم وكسب دروسٍ وتجارب وجلسة يختلي فيها الإنسان بنفسه ليستخلص العبر ويخرج بخلاصة مفادها أن حياته التي يقول عنها طبيعية هي مرضٌ وإدمانٌ ينظر إليها كما ينظر المدمن إلى قنينة الشراب أو لفافة التدخين، يعرف يقينا أنها ستهلكه لكنه لا يفتأ يتوقف عن تعاطي مخدر حتى يبدأ في تحضير آخر في علاقة يعجز فيها المدمن عن عصيان نشوةٍ تطلب المزيد، وكلما رفع في وجهها لواء العصيان، حرضته نفسه الأمارة ليظهر عاليا دون وعيه أكف الاستسلام والرضوخ، لتقول له هل من مزيد، حتى إذا بلغ منتهى الإدمان صار عبداً تأخذ حياته القاسية منحى يقوده إلى الهلاك وشر المصير.

ومن بين الدروس المستفادة من الحجر الصحي نذكر قدرة الإنسان على العيش بما تيسر لهُ دون السعي وراء الكماليات وإنتاج مزيد من المخلفات، وبالتالي منح الطبيعة والبيئة فرصة التعافي. قدرة الإنسان على العيش في منظومة يؤازر فيها الأفراد بعضهم البعض، ويتقاسم فيها الأغنياء قسماً من الثروات لفائدة المحتاجين، وبالتالي سيكون باستطاعة العالم أن ينقد الأرواح التي تقضي بالجوع والعطش والعجز.

ويستفاد كذلك من حالة العزل قدرة الإنسان على الخلو بنفسه والانغلاق بين الحين والآخر للتأمل في الكون، أو لإنتاج عملٍ فكري أو أدبي أو مشروع يخدم الإنسانية، وذلك أمر صحي ومفيد. كما أظهرت كورونا عجز النظام العالمي على مواجهة أي خطر بيئي رغم الإمكانات التي يتوفر عليها، وأن أهمية القطاعات الرئيسية في الأنظمة والمجتمعات كالطب والصحة تعتبر أولوية قصوى، وأن العالم بكل التكنولوجيا والقوة العسكرية التي ينفق عليها ما لا ينفقه على الطب والصحة ليس سوى قريةٍ صغيرة يمكن لأي معضلة بسيطة ودقيقة أن تكشف عيوبه وتقضي عليه، وبالتالي على العالم أن يهتم بالتضامن والتعايش والعيش المشترك بدل الصراع على التسلح والقتال في حروب لا فائدة منها.

كما كشفت أن الحروب الحقيقية هي حروب العلوم التي يستفيد منها الإنسان وتحصن فيها حياة الأفراد وتسعى لخلق بيئة صالحة للعيش، لا بيئة تخربها المكائد والصراعات السياسية على النفوذ والمال والسلطة، وأن العالم لا يليقُ به أن يحكمه نظامٌ يقوم على التبعية والعبودية والأولياء، بل مجتمعا واحداً يحمل همّ الإنسانية ويؤازر فيه القوي الضعيف ويسود فيه العدل وتنتعش فيه قيم الإنسان المثلى. وغيرها من الدروس والعبر التي قد يخرج بها الإنسان الذي خرج لتوه من محنة واستشعر قيمة الحياة في حرية.

غير أن العالم خرج خاسراً، فقد سارع إلى العودة إلى عاداته القديمة وفتح أبواب الاقتصاد الذي يقوم على علاقة العبد بالسيد، وفتح الباب على مصراعيه للمنافسة مجدداً، نقل معركته من التضحية في سبيل الإنسانية إلى التضحية بالإنسانية في سبيل الأنظمة والشبكات وجماعات الضغط التي لا ترى في شيءٍ جوهره ولا تبصر في كل ما في هذا الكون إلا مصلحتها الشخصية.

ظهر الخاسرون في ثوبِ الناجين، وبرز الفاشلون في عباءة المنتصرين على الوباء، بينما ما تزال الأوبئة الفتاكة تستشري في المجتمعات والأفراد، وستظل كذلك إلى أن تظهر الكارثة العظمى، وتفنى هذه الحياة على حسرة لا ينفع بعدها ندم.

إد عبد الله عبد الله