الفساد كممارسة فردية أو مؤسساتية، وكاستغلال للنفوذ، السياسي أو الحكومي أو الاقتصادي ، لمنافع شخصية ، هو ظاهرة عالمية، موجودة في كل دول العالم. وصاحبت حقبا وأنماطا تاريخية ونظم اجتماعية مختلفة.

وبدرجات شيوع متباينة الحجم والضرر، على اقتصاد الدول ونظمها السياسية. وهو تعبير عن انحراف سلوكي، قيمي( لأفراد أو مؤسسات) تارة، وتعبير عن الطبيعة البشرية الأنانية، وميلها العام للحصول على ما يمكن الحصول عليه، تارة أخرى، وفق التأويل الليبرالي.

وان الثغرات الناجمة، عن ضعف منظومة الرقابة، والقوانين الخاصة الرادعة، أو عن هشاشة النظام السياسي والدولة هذا إذا لم تكن حاضنة له ، هي البيئة الملائمة لشيوعه، رغم آثاره السلبية على المجتمع واقتصاده واستقراره.

وإذا كانت هذه الرؤية تبدو بالنسبة للأغلبية من الناس، هي مقاربة معقولة عموما.

وهي مقاربة المنطق الشكلي لليبرالية، التي تتجاهل دور جوهر النظام الاجتماعي الذي يستنبت ظاهرة الفساد.

فان المقاربة التاريخية، إذ لا تنكر أهمية تلك العوامل وواقعيتها ، فإنها تستقصي جوهر هذه الظاهرة في أعماق بنية فكر وثقافة نمط اقتصادي سائد. فنظام السوق والياته والفكر الذي يدافع عن قدسيته، يشكل موضوعيا، أرضية بيئة حاضنة لإمكانات واقعية ، لهذه الممارسة بقدر ما يوفر في الجهة الأخرى، من ضرورات اقتصادية لمحاربة شيوعها.

وعليه فان علاقة الفكر الليبرالي بهذه الظاهرة، هي علاقة إشكالية متناقضة. هذا

التناقض في الموقف من ظاهرة الفساد، هو في الجوهر مرآة للطبيعة المتناقضة لطبيعة علاقات الإنتاج هذه، القائمة على قدسية السوق والملكية الخاصة وأولوية المصلحة الخاصة على المصالح العامة.

فالضرر الذي يمكن أن يلحقه شيوع ظاهرة الفساد، باستقرار الاقتصاد واليات عمل السوق وتطوره، وبالمصالح الخاصة (أفرادا أو مؤسسات أو قطاعات)، وبالمصالح العامة للمجتمع، وتحديدا للطبقات المالكة والحاكمة، وباستقرار النظام السياسي، الذي يحمي توازن القوى الطبقي فيه، اقتصاديا وسياسيا ، هو ما يخلق الضرورة الاقتصادية والسياسية لمحاربة الفساد والتضييق عليه إن لم يكن منع حدوثه ممكنا. بل إن تحقيق الاستقرار السياسي والاقتصادي في البلد يتطلب من النظام والدولة، أيضا انتهاج سياسات تخفيف حدة التفاوت الاجتماعي لتحقيق درجة من الإنصاف والعدالة النسبية، عبر نظام ضريبي صارم، يعيد فيها توزيع الدخول ويوفر خدمات وضمانات هامة، للجماعات لمهمشة والضعيفة.

إن قوانين السوق التي تعتبر المنافسة رافعة التطور والاستقرار في الاقتصاد ومحفزا للابتكار، ولتطور القوى المنتجة ، تشكل الرشوة، والسرقة، ممارسة الغش _قوانين حماية حقوق الملكية، عوامل كابحة لقوانين ازدهار السوق وتطور الاقتصاد ، بما لها من آثار سلبية على هذه المنافسة. ولكن علاقات الإنتاج (كعلاقات ملكية وتبادل وتوزيع)، يقوم جوهرها على الانحياز والتفهم للأنانية والمصلحة الخاصة، أفرادا و شركات، لا يمكنها أن تراعي اعتبارات المصلحة العامة، إلا بمقدار أهميتها في ديمومة المصلحة الخاصة.

وكون الطبقة السائدة اقتصاديا لا تسود سياسيا وحسب بل وتصبح قيم ثقافتها هي السائدة اجتماعيا، فان ثقافة هذه الطبقات المالكة والحاكمة، هي ما تشكل فضاء محتملا ومتفهما لهذه الممارسة.

وهذا تجد تجلياته ، في هشاشة القوانين ، وسعة المنافذ التي ينفذ منها الفاسدون، وفي الحماية التي يتمتعون بها من السلطة السياسية، (حمايتهم وحماية مصالحهم )، خصوصا في الدول الهشة التي تشهد تزاوجا صريحا أو مستترا معهم.

وآثار هذا العلاقة والترابط هو الاستحواذ على القرار السياسي والاقتصادي وإعاقة مشروع التنمية المطلوبة بأبعاده المجتمعية المتعددة.

و تاريخ التنافس بين الشركات في بلدان الغرب (المركز)، دع عنك الأطراف، ملي بشواهد كثيرة لازالت تجري يوميا، بأشكال ووسائل مبتكرة، لا تخفى فيها بصمة استثمار النفوذ السياسي والاقتصادي ، ولا مظاهر التحايل والفساد، في عقد الصفقات أو في استحداث مؤسسات لا وجود لها إلا على الورق، كما يفعل رأس المال المالي اليوم. أو في تخصيص جزء مهم من ثروة البلد ومن أموال دافعي الضرائب في إنقاذ مؤسسات حتى بنكية من الإفلاس .

فالحديث هنا إذن وفق هذه الرؤية التاريخية، لا ينطلق بالدرجة الأولى من نزعة أخلاقية مجردة.

ولكنه يدور عن ظاهرة لها تداعياتها السلبية الكبرى على الاقتصاد وعلى موضوع العدالة الاجتماعية. وعلى تأثيره على قضية دور الدولة الاقتصادية والقانونية، وعلى مستقبل العملية السياسية والنظام الديمقراطي.

إذن هذه النظم والطبقات التي تقف ورائها، هي في علاقة إشكالية متناقضة مع ظاهرة الفساد.

فإذ تتطلب آلية السوق، وشروط ازدهاره وازدهار الاقتصاد، حماية المنافسة بوصفها رافعة هذا الازدهار، توفر هذه العوامل ذاتها وفكرها ، أرضية استمرار هذه الظاهرة، بتفاوت ضرورات ضبطها الاقتصادية والسياسية وجدية إجراءات محاربتها، وضرورات الاحتفاظ بالاستقرار في توازن القوى الاقتصادي والسياسي.

ولكن استمرار فوضى الإنتاج والسوق ، والأزمات الاقتصادية الناجمة عنها، وما تفضي إليه من هلاك قطاعات اقتصادية هامة، في الاقتصاد الرأسمالي العالمي اليوم، هي ليست شواهد فقط على حقيقة مضمون علاقات الإنتاج الخاصة التي تمثلها الرأسمالية الآن، وإنما القلق من مصير الإفلاس والحرص على الصمود في معركة المنافسة الضارية في ظروف السوق الصعبة هذه، تشكل احد روافع وحوافز استمرار الفساد حينما يكون ممكنا واقعا أو قانونا.

وظاهرة الفساد وجدت حتى في دول ما سمي ب"المعسكر الاشتراكي" ، سواء كانت في السوق السوداء للعملة أو في استشراء الرشوة ، خصوصا في السنوات الأخيرة. ولكن الفساد لم يبلغ المستوى الذي بلغه في البلدان الأخرى.



 دغوغي عمر