لو جاز لقطاع التجارة أن يفصح عن ما بداخله لَغَرس سُبابَتيه في أذنيه، ثم طفق كالأبلَه يصرخ في جميع الإتجاهات والمحطات دونما كلل: "واك واك آعباد الله! وا عتقو الروح!" وإذِ اختلفت النبرة مؤخرا تحت تأثير جائحة كورونا، إلا أن المضمون والدافع لم يتغيرا، بل ظلا كما العادة ركيزتين مثينتين تأسست عليهما أعظم معاناة بشرية حُشد لأجل استمرار صرحها صمودا وشموخا صبرٌ قلّ نظيره، تطورَت معه الأسماء الرمزية لمول الحانوت من احماد ومحماد التقليدية إلى صابر بشهادة رسمية حديثة!!

   تذمُّرٌ متصاعد من الركود جُملة وتقسيطا، ولكن في المقابل تفريخ متواصل لمحلات تجارية جديدة، بالرغم من غياب أي أساس موضوعي يجدر بالوافدين الجدد إلى السوق الإستنادُ إليه، أللهمّ منطق التنافس الحر، كمبرر مَن لا مبرر له! وفي حال طالَت أحد التجار أو مجموعة منهم معاول الإقصاء أو الإستئصال تَوجّهَت أصابع الإتهام تارة إلى ضعف خفي وتارة أخرى إلى فشل جلي في تسيير المشروع كأشد الأسباب وجاهَةً لنعث التاجر بالكسول! فهو حينما أقدم على افتتاح مشروعه، صار فقط كرقم ضريبي انضاف إلى مداخيل المالية العمومية دون تحصيل الفوائد المعرفية لا ماديا ولا معنويا، أو بعبارة أخرى مثل عابر سبيل أضحى هو الآخر عابرَ سوق، استغنى عن الهيئات والتنظيمات المهنية في وقت الحاجة، لا يتذكرها ولا يعيرها أدنى اهتمام إلا عند الشدة، أو كلما لحقَ به عُسر ما أو واجَه صعوبات مُعينة. ولذلك يميل التاجر الناجي بالفطرة أو بشكل من الأشكال إلى حكمة الصمت وسط الصراخ المتعالي لأخيه التاجر متعثر الحظ، ضاربا بعرض الحائط صحة القول وحقائقه الدامغة المُختزَلة في كَون سيرورة القطاع مرتبطة بنجاح المجموعة، إلى درجة أن هناك من يفِرّ واهما إلى تغيير نشاطه التجاري من صنف إلى آخر، بالرغم من أن الصنفين معا بالنظر إلى النتائج في كفة واحدة!!

  كل هذه المعطيات إنما هي في الواقع تساؤلات لم تعد تحتاج إلى محلل أو خبير للتعمق في تعقيداتها، بقدر ما تحتاج إلى ضمير يَقظ يضفي الشرعية القانونية على قرائن برائتها، كما الشرعية الحقوقية على قنوات تصريف دلائلها! لكي نكفّ عن الإفراط في ابتداع وإبتكار إنكارات واهية مناسباتية أو موسمية إضافية، كلما دعت الضرورة القصوى لإثبات جرم قائم بقوة واقع عاجّ بالإفلاس المبطن عن آخره! أينما احتاج في خضمه مول الحانوت مثلا إلى رخصة مزاولة نشاط تجاري، أُجبِر على القفز من دائرة الإختصاص بغرفة مهنية إلى إدارةٍ في البلدية حيثُ يغلب الوازع الجبائي على الهاجس المقاولاتي! في خرق واضح لمنطق الصلاحيات، ودونما تنسيق مفترض بين منتخبي كِلا الطرفين، كما ينص على ذلك القانون، وتُمليه دستورية العمل التشاركي! 

  بالنهاية، الشوارع مكتظة بالناس، والمتاجر متراصة جنبا إلى جنب، والأرصفة مؤثّثة بمختلف أنواع البضائع، وجميع وسائل النقل تجوب الأزقة محملة بما يمكن أن يخطر أو لا يخطر على بال، ما يوحي بأن الوضع طبيعي، بينما الحقيقة أن المشهد عبارة عن صدفة متجددة، تنتهي في مجملها كل يوم بحظ موفق، أو على أقلّ تقدير بأملٍ واردٍ فيه بناءً على ما تحقّق من معجزات، إذا حصل وآمنا بها، فلن يتوقف العقل عن الدوران في فراغاتها المتشعبة، ينوبه الإجهاد بدل نيل المطالب بسلك الإجتهاد!



الطيب آيت أباه