من المفروض في أي مسؤول عمومي أن يكون نموذجا في الالتزام بالقوانين الجاري بها العمل مهما كان موقفه منها. فهو يخضع للقوانين بصفته مواطنا ويسهر على تطبيقها بصفته مسؤولا وممثلا للدولة التي تجسد الإرادة العامة للشعب. وتكون المسؤولية أعظم حين يكون هذا المسؤول وزيرا أسندت إليه حقيبة العدل أو حقوق الإنسان أو الشغل.

ففي هذه الحالات لا يمثل الوزير فقط الدولة باعتبارها التعبير عن الإرادة العامة للشعب، بل أيضا الإرادة الدولية التي صاغت منظومة حقوق الإنسان بكل أجيالها، وعلى رأسها العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة (ICESCR) باعتباره المصدر القانوني الدولي الرئيسي للحقوق الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة، الذي يعترف ويحمي ويلزم الدول باحترام وحماية الحق في الضمان الاجتماعي في مادته التاسعة (تقر الدول الأطراف في هذا العهد بحق كل شخص في الضمان الاجتماعي، بما في ذلك التأمينات الاجتماعية). لكن ما تفاجأ به الرأي العام المغربي هو كون وزير العدل والحريات السابق ووزير حقوق الإنسان الحالي لم يسجل كاتبته التي ظلت تشتغل بمكتبه الخاص بالمحاماة طيلة 24 سنة. وما أن تفجّرت فضيحته حتى توجهت الأنظار إلى زميله في الحزب وفي الحكومة وزير الشغل الذي تبيّن أنه بدوره لم يسجل كاتبته وكاتبه في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي. الأمر الذي اضطره إلى استعمال نفوذه باعتباره رئيس المجلس الإداري للصندوق قصد تسجيلهما. طبعا حرمان الأجراء من التسجيل في صندوق الضمان الاجتماعي لا يقتصر على الوزيرين فقط، بل يشمل كثيرا من أرباب العمل؛ لكن التركيز على الوزيرين إياهما إنما لأسباب تتعلق، من جهة بمسؤولياتهما الحكومية، ومن أخرى، بانتمائهما إلى حزب لا يكف عن التظاهر بالورع والتقوى والطهرانية لدرجة أن أمينه العام ورئيس الحكومة سعد الدين العثماني سبق وصرح أن "مرجعية الحزب.. الله من حددها".

فالوزيران إياهما تطوق عنقهما المسؤولية الدستورية التي تلزمهما باحترام الدستور وتطبيق فصوله ذات الصلة بالقطاعات التي يشرفون عليها. ومن تلك الفصول، الفصل 31 من الدستور المغربي الذي ينص على (تعمل الدولة والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية على تعبئة كل الوسائل المتاحة لتسيير أسباب استفادة المواطنين والمواطنات على قدم المساواة من الحق في.. الحماية الاجتماعية والتغطية الصحية والتضامن ألتعاضدي أو المنظم من لدن الدولة). فضلا عن هذا، فإن الوزيرين يشتركان معا في خرق مدونة الشغل، سواء من حيث الأجرة المخصصة للأجراء في مكاتبهما الخاصة بالمحاماة، أو من حيث التصريح بهم لدى صندوق الضمان الاجتماعي ليستفيدوا من خدماته وكذا التأمين الصحي.

لا شك أن فضيحة الوزيرين تمس مباشرة سمعة الحكومة باعتبارها السلطة التنفيذية والجهة المسؤولة على ضمان تطبيق القانون وحماية الحقوق. وبناء عليه يكون وزير الشغل هو المسؤول عن القطاع والمطالب دستوريا بفرض احترام القانون وتطبيقه على أرباب العمل. إذ لطالما هدد محمد يتيم، وزير الشغل السابق، وعضو الأمانة العامة للبيجيدي، أصحاب المقاولات وكل أرباب العمل الذين لم يصرحوا بمستخدميهم بالعقوبات المنصوص عليها في القانون "عدم التصريح بالعمال والعاملات سواء في القطاع الفلاحي أو الصناعي يعتبر إخلالا بالتزام وطني وأصحابه يضعون أنفسهم للمساءلة والمتابعة القانونية حسب مقتضيات القانون.. إن الإخلال بالتصريح أو التأخير يترتب عنه عقوبات طبقا للقانون". هذه التهديدات لم تطل زميليه في الحزب ولن تطالهما من باب "أنصر أخاك ظالما أو مظلوما".

إن البيجيديين أناس تتناقض أقولهم مع أفعالهم، فجميعهم ساندوا قرار أمينهم العام السابق ورئيس الحكومة السابق عبد الإله بنكيران في الإجهاز على الحقوق الاجتماعية للموظفين والأجراء بحجة إصلاح نظام التقاعد وإنقاذه من الإفلاس، إلا أنهم يساهمون في إفلاسه من حيث يدرون أو لا يدرون. ذلك أن حرمان الأجراء من حق الانخراط في صندوق الضمان الاجتماعي لا يخرق فقط حقوق أشخاص بعينهم، بل يشمل حقوق كل الأجراء في التغطية الصحية وفي التقاعد؛ كما يحرم ذوي حقوق الأجير من منحة الوفاة ومن التقاعد. إذن، الأمر لا يقتصر على حقوق الأجير، وإنما يتعداه إلى حقوق عموم الأجراء فضلا عن حرمان خزينة الدولة من عائدات الضريبة.

من هنا يكون عدم التصريح بالأجير في صندوق الضمان الاجتماعي جريمة قانونية وأخلاقية قد تكلّف الأجير أو أحد أفراد أسرته حياته، بسبب العجز عن توفير تكاليف العلاج لحرمانه في التغطية الصحية التي يوفرها له صندوق الضمان الاجتماعي. فمن لا يستحضر الظروف الاجتماعية للأجير ويحرمه من حقوقه لا شك أنه شخص عديم الحياء والضمير والكرامة. فذو الكرامة يخشى الإساءة إلى نفسه وإلى غيره. ومن يفقد الحياء يفقد الوازع الداخلي الذي ينهاه عن أذية الغير أو هضم حقوقهم. فـ "رأس مكارم الأخلاق الحياء". وصدق الصحابي الجيل عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين قال: (مَن قَلَّ حَيَاؤُه قَلَّ وَرَعُهُ، ومَنْ قَلَّ وَرَعُهُ مَاتَ قَلْبُهُ). حين يتعلق الأمر بالمكسب والمنصب يغيب الضمير ويشح الإيمان (لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له). وحقوق المأجورين أمانة في عنق مشغليهم ملزمون بأدائها قانونا ودينا (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) النساء: الآية 58. فالبيجيديون إياهم أخلفوا وعودهم وخالفوا عهودهم وتخلوا عن مسؤولياتهم السياسية والدينية وحتى الدستورية، وليس أقلها استهتار وزير الشغل بمؤسسة البرلمان برفضه الحضور للإجابة عن أسئلة ممثلي الكونفدرالية الديمقراطية للشغل بمجلس المستشارين، حول موضوع ظاهرة عدم التصريح بالأجراء لدى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي.

 

سعيد الكحل