ما من شك في أن "المأزق الاجتماعي" لا زال يرخي بظلاله على البلد، ويقض مضجع المسؤولين كل يوم، بحكم اتساع رقعة الفقر والهشاشة وعدم قدرة العديد من المبادرات والبرامج الاجتماعية من الحد من هذه الظاهرة، المؤسف أن الأمور ما تزيد إلا استفحالا، وأن مجموع المؤشرات الوطنية والدولية المعتمدة لقياس هذه الظاهرة ربما قد بدأت تنذر بالأخطار وبانحدار الأمور إلى مستويات غير مقبولة، وأن قاموس الانتظار ربما لم يعد صالحا في حل ومعالجة الظاهرة.

يقع هذا، على الرغم من كون البلد قد أراد ومنذ سنة 2005 أن يعطي إشارات طمأنة إلى الرأي العام، مفادها أنه قد حمل أمور الفقر والتنمية البشرية على محمل الجد، من خلال إطلاق المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، والتي جاءت كجواب وفي تفاعل مباشر مع المؤشر الدولي للتنمية البشرية المعتمد لدى برنامج الأمم المتحدة للتنمية البشرية PNUD حيث المغرب كان موضوعا في تصنيف غير مشرف وفي الخانات السفلى من الترتيب، وأيضا لمحاولة جر البساط من تحت أرجل بعض الحركات خصوصا الإسلامية منها والإحسانية، التي كانت تنشط وقتها في هذا المجال، كي لا يترك لها الكرسي فارغا تستعمله في تغذية العداء للسلطة ومراكمة الأصوات الانتخابية، لا سيما وأن حركات من قبيل العدالة والتنمية والعدل والإحسان كانتا في أوج تحركاتهما ونشاطهما بالتزامن مع ما كان يعرف ساعتها بتصاعد نجم الصحوة الإسلامية.

بعد الربيع العربي، وفي ظل اشتداد العجز الذي كانت تعرفه الميزانية، كان قد احتدم النقاش واتجــه ساعتها حول سبل معالجة بعض النزيف الناتج عن المصاريف التي يلتهمها صندوق المقاصة، الصندوق الذي تدعمه الدولة وفق مقاربة اجتماعية للحفاظ على نوع من التماسك الاجتماعي والقدرة الشرائية للمواطنين خاصة بالنسبة للفئة المستضعفة، إلا أنه قد تبين مع الوقت أن حصة استفادة الضعفاء من هذا الدعم ضئيلة بالمقارنة مع استفادة "الكبار"، من مواد الدعم الموجهة للمواد الأساسية والمتمثلة أساسا في المحروقات، البوتان والسكر والدقيق.

لقد كان التفكير منصبا حول أن يتم توقيف الدعم باليد اليمنى عن الصندوق على أن يشتغل العداد في اتجاه إيصال الدعم لمستحقيه باليد الأخرى، لكن يبدو أن التطبيق السليم لهذا الإجراء رغم نبله لم يصل إلى نهايته في أول تجربة مع المحروقات، حيث توقف الدعم على هذه المادة، والتف البعض على ثمنها في تعاون خفي بين الشركات التي تنشط في المجال، بحيث حرص "أباطرتها" على التفاهم في ما بينهم وإبقاء أثمنة المحروقات في سقف معين رغم انحدار الأثمنة على المستوى الدولي، وبالنتيجة ما بقي عالقا من الإصلاح هو أن الدولة قد رفعت يدها على الدعم وبقيت الفئة المستضعفة هي "المعلقة" تبكي حالها كلما اقتربت من محطات الوقود.

ربما تكون هاته التجربة، بالإضافة إلى تدخل بعض اللوبيات أو بلغة بنكيران مجموع العفاريت والتماسيح هي من كانت وراء إرجاء النظر حول منظومة إصلاح صندوق المقاصة في شموليته، إذ بقي متوقفا عند باب المحروقات، ولم تكمل مأموريته لتطال غاز البوتان والسكر والدقيق، وهي المواد التي لازالت تدعم بحوالي 14 مليار درهم سنويا، من شبه المؤكد أن الحصة الكبرى من هذا المبلغ يستفيد منها مرة أخرى هؤلاء الأغنياء على حساب المستضعفين والضعفاء، بحسب الكثير من المتتبعين، ربما يكون الوضع الحالي وعلى قتامته أحسن من الصورة الوردية التي يتم تسويقها حول معالجة هذا الصندوق، فاللهم وصول "ربع الخبزة" في الوضع الحالي مع هذه الطريقة أو يتم الالتفاف على "الجمل بما حمل".

حين حلت كورونا على البلد، تبين حجم الوقت الذي ضاع جراء عدم العناية اللازمة بضعفاء البلد، على الأقل من زاوية التحديد والتصنيف، فنجاح سياسة الحجر الصحي والطوارئ الصحية كانت متوقفة إلى حد ما على الأخذ بزمام الأمور و"تهدئة خواطر" هذه العينة من المغاربة والاهتمام بدعمها على الأقل في المستويات الدنيا، كتدبير احترازي ووقائي حتى تمر هذه الجائحة، وهو ما تمت معالجته بنوع من الجري ومسارعة الخطى بإعداد لوائح استعجالية "كان لها وما عليها" من خلال ما بدأت تعكسه الصحافة الوطنية من خروقات على هذا المستوى.

الحاصل، أن ملك البلاد كان قد دعا منذ سنة 2018 إلى إعطاء دفعة لمختلف البرامج الاجتماعية الموجهة إلى الفقراء والمحتاجين، وإلى العمل على وقف التشتت والتداخل وضعف التنسيق ما بين مجموع المتدخلين في المجال، كما كان قد دعا إلى التسريع بإقامة ما بات يعرف "بالسجل الاجتماعي الموحد"، غير أن الرد كان بالاختباء وراء لغة "الإكراهات"، في ظل التجاذبات التي يعرفها هذا الملف الاجتماعي الشائك، والذي مع كامل الأسف ما يزال ينظر إليه باعتباره رصيدا وخزانا انتخابيا أكثر مما ينظر إليه على كونه يجمع معاناة آدمية لبني البشر من المغاربة.

حين حلت كورونا ضيفة على البلد، حلت برياحها التي كانت بالقوة بحيث لم يكن من حل وسبيل لمواجهتها إلا بالانصياع والإسراع بفتح هذا الورش الاجتماعي الكبير، لقد حصل نوع من التصنيف "غير الدقيق" في الشريحة المستهدفة ما بين فاقدي الشغل من المنخرطين في نظام الضمان الاجتماعي والمتوفرين على بطاقات الرميد وصنف آخر اندرج ضمن "الآخرون"، وهو ما أشر إلى كون الفراغ كان واضحا من حيث عدم وجود لوائح محينة لمختلف الشرائح التي يمكنها أن تكون "موضوع استهداف للدعم"، هذا السجل كان يفترض أن يتم إعداده بترصيد المكتسبات لمختلف تجارب البلد مع بعض الآليات المعتمدة في البرامج الاجتماعية خاصة مع السجلات المحصل عليها من المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، "برنامج راميد" "برنامج تيسير"، "دعم الأرامل"، وصندوق التماسك الاجتماعي.

وحسنا فعل مشروع القانون رقم 72.18 والمتعلق بمنظومة استهداف المستفيدين من برامج الدعم الاجتماعي، حين أفرد حيزا خاصا بإحداث "الوكالة الوطنية للسجلات"، باعتبارها مؤسسة عمومية تتمتع بالشخصية الاعتبارية وبالاستقلال المالي، وهو "ما يفترض" أن يجعلها في عرف "المحايد" ويبعدها من جر كل الإرث الثقافي والسياسي الذي يلف تدبير وزارة الداخلية لبعض الملفات، سيكون من صلاحياتها استقبال الملفات والطلبات ذات الطابع الاجتماعي والقيام بالمتعين في ما يخص التحيين والحفاظ على سرية البيانات، وقد نقترح أن المشرفين على هذا الجهاز حبذا لو يكونوا محلفين حتى يكونوا مؤتمنين في القيام بهذه الأعباء التي تكتسي غاية من الأهمية والحساسية. لا سيما والأمر مرتبط بحقوق ناس، الله وحده هو الأعلم بدرجة القساوة والمعاناة التي يكابدونها مع هذه الحياة.

ما سيعطي قيمة لهذا السجل هو التطور الذي تعرفه التكنولوجيات الحديثة ومسار الرقمنة الذي يعرفه البلد، من شبه المؤكد أنه ستكون هناك بعض الأخطاء والشوائب المرتبطة بهذا السجل في البداية، باعتبار التسجيل سيكون بالطلب الشخصي وبالتصريح بالشرف، غير أنه مع نوع من الحرص والتطور الرقمي وتقاطع البيانات الرقمية، قد يتم التخلص من الحالات التي لا تستوفي فيها شروط الاستفادة والبقاء في هذا السجل، وهنا أيضا يبدو من الأهمية بمكان الاشتغال على البعد الثقافي هو الآخر حتى لا يتحول التسجيل في هذه اللائحة إلى "امتياز".

من شبه المؤكد كذلك أن تحيين قاعدة المستفيدين ستكون بشكل سلس ومرن وبارتباط مع الشروط والوضعية العامة "المتحركة والمتطورة" للمسجلين، خلال حيز زمني يتعين أيضا هو الآخر أن يتم تحديده، بقي أن نشير إلى أهمية تضمين هذه القاعدة الرقمية بعض المعلومات التي تفيد في الحيز المرتبط "بنوعية التدخل"، حتى تتم عملية المواكبة، وفعل المتعين على أمل تغيير وضعية بعض الحالات المتضمنة في السجل.

من جهة أخرى، ربما يكون مفيدا ونحن نناقش موضوع الدعم، العمل على تنويع صيغ هذا الدعم لكي لا يبقى مقتصرا فقط على الدعم المالي المباشر على أهميته، فتعزيز منظومة الخدمات وتقريبها وضمان الاستفادة منها، وإحداث خدمات مشروطة كما هو العمل به حاليا مع برنامج تيسير الذي يربط الإعانة المادية بشرط احتفاظ الأسرة بأبنائها في المدارس حتى يتسنى مقاومة ظاهرة الهدر المدرسي، قد تكون صيغ ذكية حتى لا نسهم في إنتاج ريع اتكالي من نوع آخر، وحتى لا يكون لهذا النوع من المال المدفوع بعض الأدوار السلبية في ما يخص تشكيل بعض التكتلات والتنسيقيات التي قد تزيغ بهذا الملف عن الأهداف النبيلة التي وضعت من أجله.

 

سعيد الزغوطي