أقصوصة تحاول مقاضاة الوالدين تجاه أطفالهم، فاللمحات الرئيسة لنمو شخصية الطفل يتقرر جزء هام منها من ثقافة المحظور التي ما زالت سائدة عقول كثير من الآباء والأمهات، ولعل تمعنها سيفضي بالقارئ إلى الوقوف على أحد الأخطار التي تهدد الصحة العقلية والنفسية للطفل، أشبه بالأدوية القريبة من متناول الأطفال.

في روضة أطفال

دق الجرس، فعجّت باحة المدرسة بالآباء والأمهات تشرئب أعناقهم وسط حشد من الأطفال والطفلات، كانوا يلوحون بمحافظهم كلما لمحت أعينهم وجوه أقاربهم، أو تناهت إلى أسماعهم أصوات أسمائهم مختلطة بغوغاء الأطفال. وفي دقائق معدودة اقفرت الباحة إلا من طفلة ندى، كانت رابضة في إحدى جنبات الساحة تنتظر قدوم سيارة أمها، اقترب منها أحد العاملين بالروضة؛ اعتاد على اصطحابها إلى منزلها، كلما لاحظ طول انتظارها. كان يصطحبها مشيا على الأقدام، وكلبه في أثرهما، لم تكن المسافة ببعيدة، فكان يستغلها في رواية أقاصيص ودعابات تقهقه ندى لسماعها، وهي مولية وجهها إليه بعينين مغرورقتين بالدموع من فرط الضحك أو أشعة الشمس.

كان دوما يحس بسعادة غامرة وهو يدلف إلى داخل الفيلا، ونداءاته تتلاحق:

- " لالة تورية... آلالة تورية... سي كريم..."، فتهرول إحدى الخادمات لسماعها بوصول ندى، ثم يعود عزيز أدراجه إلى منزله حيث كان يقيم وحيدا صحبة كلبه ميرو بعد أن انفصلت عنه زوجته؛ فقد كان محبوبا من لدن صغار الروضة، لطالما كان ينخرط معهم في حلقات تنشيطية، أو يسعى في إغداق الحب والحنان عليهم، حتى بات معروفا لدى أهالي المنطقة، لا يتوانى أحدهم في النظر إليه كأحد المقربين.

كثيرا ما كانت ندى ذات الست سنوات تتخلف عن ركب الأطفال، بنية أن تضلل أبويها أو توهمهم بأنها بارحت المدرسة إلى المنزل باكرا حتى يتسنى لها الاستمتاع بأقاصيص ودندنات عزيز وهو يصطحبها إلى منزلها، بدلا من أحد أبويها اللذين اعتادا على إيداعها في المقعد الخلفي للسيارة؛ دون أن يفاتحها أحد في حديث أو غيره.

وذات يوم؛ وبينما كان الأطفال يمرحون بحديقة المدرسة وأصواتهم تتعالى مرددة لأناشيد عزيز وهو يؤديها بواسطة آلة الساكسفون؛ إذا بندى تتسلل من الصفوف وتتوجه خفية إلى مكتب المديرة، لاحظت هذه الأخيرة بكثير من الاندهاش وقوف تلميذة بالباب متسمرة، وكأنها تنتظر الاستئذان لها بمقابلة المديرة. طوت أوراقها وأسرعت إليها، انحنت تحدق في قسمات وجهها علّها تقرأ شيئا غير عاد؛ دفع بها إلى مكتبها:

- ".. ندى... كيف أنت... هل تستمتعين بأنشطتنا... هل أزعجك شيء..؟؟".

- ظلت سادرة قليلا قبل أن ترفع نظراتها إلى وجه المديرة فقالت بصوت متحشرج: "... إنه وغد... لا أحبه! ".

- المديرة مقبلة عليها بكل جوارحها "... وغد... وغد..!.. ومن يكن هذا الوغد؟".

- بعد تردد، تشبك أصابع يديها بقوة "... عزيز..!".

- المديرة، خلعت نظارتها واقتادتها إلى المكتب، ثم أمرت بكوب ماء، وعادت تسألها بإلحاح شديد" قلت... عزيز.. ماذا جرى لك معه... قولي... لا تخافي بنيتي..".

- "... له قضيب... صلب!! .. كان... يحملني إلى صدره..."

- المديرة تجفف عرقا بدا يتصبب على جبينها "... كيف... وهل رأيته.. أم هو الذي أراك أياه؟!".

- ندى تختلس نظرات من حولها ثم تقول في توتر باد "... رأيته.... !"

- المديرة تحاول تدوين كل شيء ".. وهل سال منه شيء... حليب أبيض مثلا... حليب أبيض... قولي..".

- تسمرت في مقعدها ولم تنبس ببنت شفة. نادت المديرة إحدى العاملات لتتولى اصطحاب ندى إلى منزلها، وأردفت قائلة والشرر يتطاير من عينيها، "... أخبريهم باجتماع عاجل سينعقد هنا صباحا..".

* * *

لم يطل انتظارها وهي تستعيد تفاصيل حوارها مع ندى، فسارعت إلى استدعاء عزيز إلى مكتبها. تفرّسته بعينين جاحظتين وكأنها تحاول سبر نواياه:

- " أية علاقة تجمعك بالتلميذة ندى..؟".

- عزيز في ذهول ".. أية علاقة غير التنشيط الجماعي...؟!".

- المديرة مقاطعة وبصوت أجش "... كيف؟!... تصطحبها من وإلى المنزل... هلا أنكرت هذا... ؟!".

- عزيز يحاول ابتلاع ريقه ".. نعم ولكن...".

- لم تمهله؛ إذ سرعان ما خبطت المكتب بجمع يدها وقد احمر ودجها... نهضت ثم ما لبثت أن أخذت تقصفه بكلمات لاذعة "اخرج .. اخرج ... إنك مفصول بالمرة.. ولا أرغب في أن أشتم رائحتك بالمؤسسة، وسأبلغ الشرطة.. هيا أغرب عن وجهي".

اجتماع فوق العادة

دبت وشوشة بين الحضور؛ وهم يترقبون الاجتماع وموضوعه "... أية مناسبة... وهل هناك إعداد لحفل.. أو رحلة.. ها ها ها...".

- المديرة تلج القاعة، ومسحة اصفرار تعلو وجهها، حاولت أن ترسم على شفتيها ابتسامة فلم تطاوعها نفسها ".. فقط أعزائي عزيزاتي.. دعوتكم لنتعاون سويا في أي سلوك طارئ قد تلاحظونه لاحقا على أبنائكم.. كالتبول في الفراش أو الصراخ بالمنام... أو هذيان.. أو ما شاكل.. وأختم بإخباركم بأن المنشط عزيز مفصول عن مؤسستنا وكافة أنشطتها... وشكرا".

- ما إن ركنت سيارتها حتى أسرعت إلى ابنتها ندى في حجرتها، فجعلت تسألها بقلق شديد "عزيز.. سيطرد.. كان يصطحبك.. هل أساء إليك يوما...؟ "

- ندى بوجه بشوش وعينين دلوعتين ".. لا ...لا.. لا...لا.. كان لطيفا معي... أحببت أقاصيصه..".

- الأم تقترب منها وتحتضنها هامسة في أذنها ".. ربما شاهدت منه شيئا قبيحا؟.. قولي... سأشتري لك كلبا..".

- ندى تغرق في ضحكاتها ".. لا...لا... ها ها ها..".

- "وما قالته المديرة..؟!".

- "... ها ها ها.. يعجبني أن يتحدث عني الأطفال... هو ظريف لم يسئ لي أبدا.."

- ".. إنك تكذبين.. إذن...".

- ندى تصمت وتتطلع إلى وجه أمها بعطف ودلال..." أنتظر منك كلبا... بلون مرقش... هلا...".

* * * *

انضما إلى سرير النوم بعد أن أغلقا هاتفيهما... وأخذا يتداولان في أمر ابنتهما.. والشهادة التي أقرت بها للمديرة... "أيجوز لابنتهما الصغيرة أن تختلق هذه الفرية وتقذف بها إنسانا بريئا وراء قضبان السجون.... وهل الكذب يولد مبكرا... بين الصغار.. لكن من يحملها على ذلك... وهي الدلوعة بينهما.. وكل حاجياتها طوع بنانها... لا.. لا.. وكأن شيئا يدور في خلدها.. تريد أن تبوح بشيء لكن تخشى أن يضيع منها شيء... لا.. لا.. قلقنا سيتزايد.. والأصابع ستلاحقنا... الحل.. الحل أن نغير السكنى.. أو الروضة... لكن كيف.. ستتكيف مع أجواء المدرسة وعلاقتها بالأطفال... ابنتنا سريعة التأقلم... ألم تتذكر زمرة من صديقاتها طرقن أبوابنا يسألن عنها، ولمّا يمض على تمدرسها أكثر من بضعة أيام....؟!".

ندى بوسط مدرسي آخر

تم تنقيلها إلى روضة جديدة؛ بملف اقتصر؛ بناء على توصية أبويها؛ على معدلاتها المدرسية وأنشطتها بورشات الرسم والألعاب، وهكذا اعتقدت الأم تورية وزوجها كريم أنهما سيتخلصان من الكابوس الذي جثم على صدريهما منذ أن باحت لهما المديرة بذلك السر الغريب، فقد تغير كل شيء، ولم يعد بالإمكان اقتفاء خطواتها أو إعادة التحقيق معها. ولمحو كل ما قد يكون ما زال عالقا بذهنها، عمدت أمها إلى تغيير طلاء وديكور غرفة ابنتها، كما اقتنت لها كلبا من فصيلة غالية؛ جعلته يمرح معها في الحديقة جل أوقاتها، وكثيرا ما كانت تقلده في نباحه أو تروضه على معرفة أسماء أدواتها وحملها بين فكيه.

ذات يوم؛ وبينما كانت في استراحة؛ انتحت زاوية منعزلة تحت شجرة وارفة الظلال، وجعلت تلون شفتيها بأحمر شفاه أمها، ثم تظاهرت بالجري تحت أعين بستاني الحديقة، سقطت إلى الأرض.. فنظرت إليه كما لو كانت تطلب إسعافها، اقترب منها في محاولة لإيقافها، لكن وتحت إلحاحها لم يتوان أن حملها إلى صدره مهرولا بها إلى معلمة كانت هناك... أمروا لها بشربة ماء لتنهض وتطلق ساقيها للعب ثانية غير عابئة بنداءات وتحذيرات المعلمة التي كانت تلاحقها: "..Nada .. Nada Attention !..pas courir".

ندى في نومها

كانت غرفتها مجاورة لغرفة أمها... لا تنام إلا إذا دثرتها بالأغطية وطبعت قبلة على جبينها قبل أن تخلد للنوم. لكن ذات ليلة وفي ساعات متأخرة، نهضت مذعورة على وقع صياح صادر من غرفة ابنتها.. كان يشتد ويخف.. وأحيانا يتحول إلى غمغمة لا تستبين منه سوى جملة " ... خذني... إلى حضنك... خذني.. آها.. آها ممتع..."، توقد المصباح وتقعد إلى جوارها.. توقظها وتناولها كوب ماء ثم تحولها إلى الشق الأيمن...

أخذت الأم تستعيد غمغمات ابنتها بكثير من القلق والحيرة.. وكثيرا ما كانت تحاول طي الموضوع باعتباره رد فعل منعكس لما تشاهده ابنتها وهي تمرح مع أترابها بالمدرسة، لكن قلقها أخذ يتعاظم مع مرور الأيام حتى بات كابوسا لها كلما أرادت أن تنصرف إلى النوم أو تغادر إلى عملها كمصرفية، حاولت جهدها أن تجد لها حلا، فكان كلما طرقت الموضوع مع والدها كلما تأفف وصرخ في وجهها"... حوّلنا مدرستها .. حولنا غرفتها.. أتريدين أن يتحول منزلنا.. أو أن نتحول نحن...؟!".

السبيل إلى اكتشاف الهول

دأبت ندى على عادتها في المدرسة، كلما ضاقت ذاكرتها بالصور... أسرعت إلى أحمر الشفاه، وتقمصت دور الطفلة التي أضناها الجري لتشفي شيئا ما يضطرب به فؤادها. وكانت علاقتها بكلبها سيب قد نضجت، فأصبح بإمكانه إجابة حاجياتها بمجرد أن تنطق باسم لها.. فيخف مسرعا ليجلبها من غرفتها أو غرفة أمها.

كانت تتحين أوقات غياب أمها عن المنزل لتدلف إلى غرفتها وتذهب توا إلى جارور لطاولة محاذية للسرير.. لتسحب منه بهدوء لوحا إلكترونيا ثم تقفل مسرعة إلى حجرتها، فتوصد الباب من خلفها لتشرع في نشر ألعابها من حولها.. فإذا ما أحست بطارق أو وقع خطوات في الخارج دست اللوح تحت وسادتها وتظاهرت بتحريك قطع لعبها.. وإذا سمعت ببوق السيارة أسرعت لتعيده إلى مكانه، لكن ألفتها بكلبها ميس والاعتماد عليه في جلب حاجياتها تطورت، فأصبح قادرا على فتح الجارور والإمساك باللوح بين فكيه ليضعه بين يديها، مقابل قطعة لحم طازجة. كانت تلهو باللوح... وتتأمل صوره وأصابعها لا تنفك عن لعق لسانها الذي كان يسيل باللعاب... كلما ركزت حواسها في مشاهده التي تتجدد كلما نقرت بأصبعها رقما جديدا. وكم كانت غبطتها كبيرة وهي ترى ميس يتنقل بين الحديقة وغرفة نوم أمها بمهارة، لكن حدث ذات مرة أن سقط منه اللوح ليرتطم بالأرض، فأصدر أنينا بنباح متقطع، سرعان ما التقطه ثانية ليدعه بيدها؛ وذيله ما زال يبصبص إلى جوارها... حاولت تشغيله فوجدته معطوبا بخدوشات أصابت الشاشة برمتها! .. حاولت مرة تلو أخرى... ولما تأكد لها حرمانها من حديقة الصور التي كانت تعيش في أحضانها، جلبت سكينا ثم ابتعدت حتى توارت خلف سياج الحديقة.

يسدل ستار الأقصوصة على

لغط وحالة استنفار قصوى هزت الفيلا بأكملها... نداءات وصيحات... تتلاحق بحثا عن ندى .... ".. ندى ... آندى.. أينك.... هذه أمك تناديك... أينك يا ابنتي .. ههههههآهاها"

طافوا في جميع الأرجاء.. خادمات وجيران يبحثون في كل مكان.. بيد أن أحدهم صعق لمشهد ندى وهي تحاول دفن كلبها إلى جوار لوح إلكتروني... استخرجوا اللوح من تحت الأنقاض وبعد عملية مسح وجدوه عبارة عن خزان لما يربو عن آلاف أفلام البورنو الأشد إثارة وعنفا!!!