إلى عاملات الفراولة الحمراء بالضبط

على عادة الأساطير اليونانية والإغريقية فإن الموت كان يدخل في مجال اختصاص العرافات الآلهة، لذلك كان من البدهي أن يتأسس على بنية اللغز. أوديب مات وفق تعبير العرافة بعد أن نجح في حل اللغز، لكن ذلك لم يشفع له في أن لا ينتج موتا وخرابا داخل طيبة، حيث شاعت الكوارث والأوبئة، وكثر الموت مما أدى افتضاح السر اللغز الذي كان يمثله أوديب، فانتحرت أمه زوجه، وفقأ عينه. ربما لم ينتحر أوديب لأن الآلهة كانت رحيمة به لأنه الوحيد الذي نجح في فك طلاسم سؤال بوابة طيبة.

لكن هوميروس الذي تنبأت العرافة بموته وحددت مكان موته بالاسم لم يفزع من هذا القرار الإلهي، ولم يمنعه خوفه من الموت من استكمال واجب البحث عن اصوله البيولوجية والجغرافية لأنه كان قد سألها في استجواب عاطفي جدا عن والديه وموطنهما. لم تجب العرافة عن السؤال الأول نهائيا، لكنها أجابت عن وطن أمه، وأخبرته بأنه سيموت على أرضه. ولكي تكتمل نكاية العرافات لم تخبره عن سبب موته، وهو لم يسألها أصلا فلم يكن من المنطقي أن تجيبه عما لم يسألها عنه. لكن هوميروس الحكيم سيموت، وياللعجب، لأنه سيعجز عن فك شفرة اللغز الحكمة. وسيأتيه الموت من جهة أمه مثلما وقع لأوديب حينما آتاه الموت والعمى من جهة الزواج بأمه. فانتحرت والدته وفقأ عينه. لكن الفرق الوحيد بين أوديب وهوميروس هو أن الأول خلف من بعده من يقوده في ظلمات العمى، وسواد الوجود ويهديه إلى الطريق لمسا وصوتا، فكانت تمسك بيده وتدله على جغرافية الأرض بصوتها. أما هوميروس فلم يجد من يقوده في دهاليز الموت، أو من يعبر به من سطح الأرض إلى ما تحتها من ظلمات ووحشة.

قادته أقداره إلى وطن أمه "إيوس"، ومن يقدر على أن يغالب الشوق إلى أرض الأم، كما قالت له العرافة سابقا لكنها حذرته من اليافعين، أو ممن ليس لهم خبرة، وأضيف أنا، ممن ليس لهم حكمة أو عقل.

بعدما وصل جلس على صخرة بقرب البحر، ربما هي ثخرة البداية، وربما هي صخرة الحياة، لكنها ستصير مع هوميروس حتما صخرة الموت والنهاية كما هو البحر حتما لازمة من لوازم الأقدار التي تصنعها الآلهة لأبطالها، وسببا رئيسا من أسباب الموت والفقدان والضياع.

بعد وقت، وجيز أو طويل، رأى صيادين يخرجون من البحر فعجل هوميروس بسؤالهم، وهنا يكون قد نسي وصية العرافة إذ حذرته من اليافعين، وهي وصية غالية جدا ولاشك. لكن هوميروس لم يفهم الوصية ولم يعيها، إذ كان عليه أن يقلب معناها ليكشف دلالتها الحقيقية حيث كانت تعني أن يحذر من أن يكون يافعا، بمعنى أن لا يصير يافعا بدون حكمة ولاعقل، وبدون خبرة ولا نضج. إذ متى رأيت حكيما عاقلا يسارع في طرح الأسئلة على الناس، ومتى كان حكيما يفتك بحرمة الغرباء.

هوميروس كان غريبا يطرح سؤال اليافعين والمجانين والحمقى والصبيان على الغرباء وعلى أرض غريبة عنه وبحر غريب عنه.

تتضح وجاهة هذا التأويل عندما ندرك أن الغرباء الذين سألهم على ساحل "إيوس" لم يكونوا يافعين ولا صبيان غير ناضجين، بل كانت عقولهم ناضجة بالحكمة وتضج بعقل الأشياء، وإدراك سر الحكمة، والتمرس على إنتاج الألغاز، والدربة على قتل الحكماء مثل الحكيم هوميروس.

لقد كان سؤال هوميروس للصيادين سؤالا بسيطا جدا وعاديا جدا إن لم نقل سؤالا تافها لا يليق بتاريخ هوميروس الحكيم، ولا يناسب حجم العقل الذي يسكن في وداعة داخل رأسه، أو يضطرم مثل النار أو البحر داخل رأسه. لأنه كان سؤال الصبيان واليافعين والنساء والمتطفلين الذين لا يقدرون على لجم لسانهم حتى لا يهلكهم أو يطرحهم في أرض الهلاك. حيث قال للصيادين في جهل الجاهلين:

_ على ماذا حصلتم في رحلة الصيد؟

لكن جواب الصيادين كان في شكل لغز عصيب جدا، إذ قالوا له في وداعة الصبيان والأطفال حينما يفاجئوك بأجوبة لا قبل لك بها، ولا طاقة لك على سماعها، ولا مهارة لك في فهمها بله حلها، وفك مغالقها.

_ "ما حصلنها تركناه، وما لم نحصله حملنها."

لم يسطع هوميروس فهم جوابهم، ولم يقدر على حل شفرته، فبهت العاجز، وسقط مغشيا عليه من العجز وعدم القدرة على تأويله، وتبينه لنفسه وهو من هو في دنيا الحكمة، وعالم العقل والمعقولات. لكنه كان عاجزا عجزا كليا عن إدراك مضمونه، وتفسير دلالته، فلم يكن أمامه سوى الموت قدرا ومعادلا موضوعيا لعجز العقل الذي يضطرم محدودية داخل رأسه.

وهنا نكتشف أن المعصية لا تؤدي بالضرورة إلى الموت كما هو الحال في خطيئة أوديب، صحيح أنه عاد إلى وطنه الأصلي طيبة فقتل أباه وتزوج أمه وأنجب من والدته ابنة اتخذ منها دليلا وهداية له بعد العمى الذي أحدثه بنفسه بعينيه ربما حتى لا يقوى على النظر إلى وجهه وعينيه اللتين أبصرتا أمه، لكن العجز خطيئة العقل، ومعصية النظر لا حكم يليق بهما سوى الحكم على صاحبهما بالموت. لقد جاء هوميروس يبحث عن وطن أمه فطرح سؤالا تافها فتلقى جوابا لغزا وملغزا فكان مصيره الموت عجزا، وأوديب جاء إلى طيبة يبحث عن ملك لا يبلى، وملكة تطير الأعناق في سبيلها، وأرض لها المجد كله في البلدان، كل هذا بدون عسكر أو حرب، وبدون ملك أو جاه سوى جاه العقل، وملك الحكمة. طرحوا عليه سؤالا لغزا ملغزا فأجاب عنه في كلمة، تلك الكلمة كانت هي مفتاح مملكة طيبة، و شفرة غرفة ملكتها.

استطاع أوديب أن يفك اللغز فأدخل الموت والأوبئة والكوارث كلها إلى طيبة، وألحق العمى بعينيه، وهوميروس لم يستطع أن يجيب عن اللغز فأحدث العجز بعقله، وأدخل الموت إلى نفسه. لأن الصيادين الذين اعتقد هوميروس أنهم جماعة من البسطاء لا حكمة لهم ولا عقل في رؤسهم أظهروا كل الإلغاز في جوابهم لأن المنطق السليم العادي لتركيب الجملة كان يقتضي منهم أن يقدموها بالشكل التالي:

" ما حصلناه حملنها، وما لم نحصله تركناه"

لقد جاءت صياغة الجملة على عكس التركيب الذي يترقبه أفق انتظار المتلقي، لكن هوميروس لم يكن متلقيا عاديا لذلك جاء جواب الصيادين في معادلة لغوية ودلالية معكوسة، ولا تناسب سلسلة التلقيات التي اعتادها المتقبل ودرج عليها مستعمل اللغة.

هل كان الصيادون بالفعل جماعة من اليافعين يطرحون جوابا بليدا في شكل استفهام بليد لأنهم يدركون فداحة عقل هوميروس، ويعقلون قوة حكمته؟

لا أعتقد.

لأن السر كان يكمن في الجهل بالسياق المحيط بهذا اللغز الحكمة. لقد أمضى الصيادون وقتهم في تفلية رؤوسهم واصطياد القمل، فما حصلوه من القمل تركوه بعدما أعدموه، وما بقي في رؤوسهم تركوه ولم يحصلوه، لكنهم مازالوا يحملونه في رؤوسهم.

ألم تقل الآلهة لهوميروس:

" إياك واليافعين"

وحذرته من مصاحبتهم، أو التفاعل معهم. لكن هوميروس نسي ولم يكن له عزم يذكر على حفظ وصية الآلهة. ربما لأن ما يحمله من حكمة يتجاوز حكمة الآلهة، أو هكذا صورت له نفسه، وأوهمه به عقله، ووسوست به حكمته فقضى على أيدي مجموعة من الصيادين اليافعين الغرباء يصطادون القمل العجيب في بحر جزيرة "إيوس" وطن أم هوميروس، وأرض قبره.

لكن من يقف خلف موت الأبطال في الأساطير اليونانية، أو على الأقل مسخهم وتشويههم؟

إن الآلهة هي من صنعت قدر أوديب، وأعدت له الوسائل والسبل منذ أن كان طفلا فأخبرت والديه بمصيره التراجيدي فهرب منه طفلا ثم عاد إليه شابا، لأنه كان يزاحمها في العقل وملك الأشياء، لأنه أعد منذ الأزل لأن يكون ملكا، فقضت عليه بأن يكون أعق البشرية على الإطلاق لأنه قتل أباه وتزوج أمه، وأنجب منها كائنا حيا يمشي على الأرض ويكلمه ويسمعه.

وإن الآلهة كانت تعلم بأن هوميروس سيموت على ساحل بحر "إيوس"، بل هي من دفعته إلى الذهاب إليه، والتخلص منه، لأنه يزاحمها في الحكمة وعقل الأشياء، فلذلك حكمت عليه بأن يموت بعلة العجز في عقله، والضعف في إدراكه.

لكن أين تلتقي عاملات الفراولة مع أبطال الأساطير اليونانية حتى يمكن تصدير هذا الكلام غير الحكيم بإهداء مقتضب إليهن لكنه فارغ من أية مباركة أو لواحق دالة؟

إن ما يربط بين عاملات الفراولة وهوميروس بالضبط هو المصير التراجيدي الذي يلتقيان فيه.

لقد ذهب هوميروس إلى أرض " إيوس" بدون "الحكمة" و "العقل" الذي حصلهما في وجوده وتركهما في الأرض المجهولة التي أجرى على سطحها استجوابه العاطفي والحميمي للآلهة سائلا عن والديه وأرضه الأصلية، وحمل معه الجهل والعجز والضعف والهوان وقلة الحيلة في فك لغز الصيادين. فما حصله من علم وعقل وحكمة تركه وتخلى عنه بالضبط عند سؤال الإلهة، وكأن استجواب الآلهة يؤدي حتما إلى الجهل وزوال العقل، وضياع الحكمة، وما لم يحصله من جهل وعجز حمله معه كأنه قدر لا مفر منه، وكأنه حكم الآلهة التي ليس لحكمها نقض أو إلغاء.

كذلك ما حصله أوديب من ملك وجاه وأصل أرستقراطي تركه بسبب والده الذي رماه في الغابة وعلقه على أغصان الأشجار حتى يقضى عليه ولا يكبر فيقتله ويتزوج أمه، لكن أوديب، وما لم يحصله من قتل وموت وطاعون وأوبئة وزواج بالأم وإنجاب منه حمله أوديب في شكل جواب على لغز حقير جدا.

كذلك عاملات الفراولة ما حصلنه من ضمان على استمرار الحياة، وقدرة على سد الجوع، وإدخال الفرحة على قلوب الأهل والزوج والأبناء تركنه، وما لم يحصلنه من مرض وفقر وألم وانهيار وتعب نفسي وعاطفي حملنه معهن إلى المعامل والضيعات والمستشفيات.

إن الآلهة التي علمت سلفا بالمصير التراجيدي لهوميروس وأوديب وغيره من الأبطال أنصاف الآلهة قدرا مأساويا ولم تتدخل لتوقيف القدر وتعجيل السلامة، وتمكينهم من القدرة على مراوغة النهاية الحتمية، ولم ترسل إشعارات التحذير، ولم تلوح بعلامات الحيطة عند وقوع ما لا ينبغي أن يقع، وما لا يليق بالأبطال أن يلحق بهم، أو يتصفوا به، أو يعرفوا به فيعلموا به عند جميع ذرية البشرية هي نفسها أرباب معامل الفراولة، وسادتها. فقد علموا باحتمالية المرض اللعين الذي يلاحق نساء عاملات من أجل لقمة العيش، وفتات الحياة لعلهما يزهران أملا وفرحا في عيون أهلهن وأطفالهن وأزواجهن، لكنهم لم يعملوا على وضع حياة العاملات في الكفة الثقيلة من الميزان، ولم يخلصوا لهن، ولم يرقبوا فيهن عرقا أو وجعا، ولم يحرصوا على بناء سلم العافية و إشراع نافذة النجاة لعل مصيرهن يكون خيرا من مصير هوميروس لأنه لم يعمل بسنن الحكمة، ولم يصدر في كلامه مع الصيادين عن عقل ونضج عاطفي ونفسي عكس عاملات الفراولة اللواتي كن حكيمات حينما اتخذن من مواجهة مواجع الحياة عقيدة، وتبعن قواعد العقل حينما آثرن الموت على الحياة في سبيل الله والوطن والأهل والأبناء والأزواج، وأظهرن نضجا عاطفيا وإنسانيا غريبا لم يقدر عليه هوميروس حينما تعجل بالكلام، وجاء إلى الموت على أرض إيوس يسعى سعيا وهو يعلم أنه سيموت على ساحل بحرها كما أخبرته بذلك الآلهة، فمنحته الآلهة فرصة الاختيار بين الموت أو النجاة منه عبر إمكانيتين اثنتين هما عدم السفر إلى بحر "إيوس"، أو على الأقل عدم الكلام مع اليافعين، أو على الأقل أن لا يصير يافعا فيضمن الخلود. أما العاملات فعلى الأقل هن لا يعلمن بفرص النجاة، ولا طرق العافية، فليس أمامهن سوى الخروج من البيت والذهاب في طريق آلهة لا تحرص على توجيه التحذيرات، ولا تأبه برسم خطط الوقاية، وليس من اختصاصها وضع قواعد السلامة، أو إطلاق صافرات الإنقاذ، أو العمل على تدريبهن على فنون القفز من طائرة محترقة الجناحين والذيل، أو القفز من سفينة خرقتها الآلهة نفسها عندما لم تحرص على تقديس حياتهن عن طريق الإخلاص لتنظيم قواعد الوقاية، وتعقيم الآليات والمعدات فتركتهن لمصيرهن التراجيدي مثلما تركت الآلهة هوميروس وحده في مواجهة مصيره المأساوي وهي تعلم علم اليقين أن لا حياة لهوميروس بعد السفر إلى سواحل جزيرة "إيوس".

 

محمد الغرافي