إذا كان اليوم تدبير أزمة كوفيد 19 هو الشغل الشاغل في الساحة الوطنية، فإن الصحة، للأسف، ليست هي النتيجة الوحيدة لذلك.

في نهاية المطاف، ستنتهي الأزمة الصحية، لكنها ستفسح المجال للتقييم الاجتماعي والاقتصادي وللجرد الدراماتيكي للاقتصاد الذي توقف عشية فرض الحجر الصحي. حينها ستكون هذه الأزمة قد ضربت بقوة العديد من قطاعات الاقتصاد الوطني، وأثرت عليها على المدى المتوسط، وحتى منذ بداية تلك الأزمة، ولذلك فمن الأفضل لنا إبداء ملاحظات موضوعية، ورفض كل قناعة أو تفاؤل واهم قد يضعف أو يغيّر من حكمنا.

إلى جانب عواقبها النفسية فإن أزمة كوفيد 19 وما سيتبعها ستؤثر حتما على النشاط السياحي في بلدنا، وستقلل من المداخيل المالية من العملات الأجنبية، التي تقدر بأكثر من 60 مليار درهم. لذا سيكون قطاع السياحة أحد الضحايا الرئيسيين لهذا التوقف، إذ لا تتوقع شركات الطيران عودة أنشطتها إلى طبيعتها حتى عام 2023. 

في المقابل فإن الأزمة الاقتصادية الناتجة عن كوفيد 19 وآثارها على المستوى العالمي ستجعل الاستثمار الأجنبي المباشر يتجه نحو إنعاش الاقتصاديات الوطنية. ومن المتوقع حدوث انخفاض كبير في حجم الاستثمار الأجنبي المباشر في المملكة، من خلال حرمان المغرب من جزء من تدفقات العملة الأجنبية المرتبطة بنشاط الاستثمار الأجنبي المباشر، المقدر بما مجموعه 35 مليار درهم.

كما أن العواقب الاجتماعية لهذه الفترة الاستثنائية لا تعفي المغاربة المقيمين بالخارج، الذين سيتم تقليل إيداعاتهم للعملة الأجنبية نحو عائلاتهم بالمغرب بشكل كبير، وذلك مباشرة بعد تقهقر الاقتصاد الأوروبي الذي يتأثر بدوره من الفيروس.

بالإضافة إلى ذلك فإن الجفاف الذي يضرب بلدنا هذا العام قد يزيد من الحاجة إلى استيراد الحاجيات الأساسية، وخاصة القمح، الذي يستورد المغرب 40% من احتياجاته السنوية، بما مجموعه أكثر من 15 مليار درهم.

لكن، بالنظر إلى كل هذه التحديات التي ستواجهها بلادنا في هذا الوقت العصيب من المهم لحكومة المغرب ألا تعتمد على إجراءات سطحية تقلل الضرر فقط، ولا تكفي لمواجهة حجم الأزمة القادمة. فهذه الحكومة تستمر أيضا في إعلان تدابير غير مشجعة ولا يمكن إثبات نجاعتها.

من هنا، يبدو من المهم وضع تدابير قادرة على إنتاج قيمة مضافة عالية، بحيث يمكن أن يساعد إنتاجها على جذب العملات التي ستحتاجها المملكة لضمان استقلاليتها واستقلالها المالي. في هذا السياق، يلاحظ أن العديد من الأصوات في الدول الكبرى، كالولايات المتحدة الأمريكية، تطالب بإعادة تصنيع لاقتصادها، وهذا الأمر يجب أن يصبح هدفنا كذلك.

إن الصناعة المحلية القوية، وإلى جانب خلقها آلاف الوظائف فإنها يمكن أن تعمل كشبكة أمان في قطاع التصدير، من أجل جلب العملة الأجنبية؛ أما إن بقيت على حالها الآن فيمكن أن تدخل إلى حلقة مفرغة لا سبيل للخروج منها، ولن تصبح ذات منفعة بعد ذلك.

لسنوات طويلة، تعرض النسيج الصناعي المغربي لهجوم شديد من المنافسة الدولية، وعانى بالكامل من آلام العولمة واتفاقيات التجارة الحرة، غير المتحكم فيها أحيانا. اليوم، تجد عبارة "صنع في المغرب" نفسها في مفترق طرق، ويجب على الحكومة المغربية أن تدعمها من أجل استعادة قدرتها التنافسية ومساعدة النسيج الاقتصادي الوطني بأكمله على التكيف مع عواقب هذه الأزمة. كما أن الوقت غير ملائم للدعم غير المشروط أو المساعدة الاقتصادية، ويجب على الحكومة أن تتجه إلى القطاعات الإنتاجية، من أجل إقامة شراكة قوية بين الدولة وشركائها الصناعيين ترتكز على منطق "رابح-رابح".

إن الانتعاش الاقتصادي الذي ستحتاجه البلاد نتيجة لهذه الفترة لا يمكن أن يتحقق دون إبرام عقد أخلاقي بين الشركاء الاقتصاديين والحكومة، والذي سيكون بمثابة "اتحاد" لحسن النوايا من أجل ضمان الحد الأقصى من التوظيف ورفع القطاع الصناعي المغربي إلى مستوى تنافسي أكبر.

من هذا المنظور، يجب التذكير بأنه من أجل الاستمرار الأساسي للقطاع الإنتاجي المغربي، من المهم اغتنام الفرصة الاقتصادية التي تتيحها الأزمة الحالية، للعمل كمسرّع للتصنيع الوطني وزيادة قدرته التنافسية العالمية.

في أعقاب هذه الأزمة، سيكون لدينا خياران: إما تأسيس نمونا (من بين عدة أشياء) على قطاع إنتاجي وصناعي مهم، مع التأكيد على قيادة المملكة في القارة الإفريقية، لتصبح شريكا أكثر أهمية لما تسمى بلدان "الشمال"، ومحورا صناعيا بين دول "الشمال" وإﻓﺮﻳﻘﻴﺎ ﺟﻨﻮب اﻟﺼﺤﺮاء، أو أن نتحمل عواقب حكمنا على هذا القطاع بعدم قدرته التنافسية بشكل نهائي. هذا السيناريو الأخير قد تحقق أيضا في البلدان التي كانت صناعية وتجد الآن صعوبة بالغة في نقل صناعتها، بحيث تواجه صعوبات كبيرة بسبب "نهاية" العصر الصناعي في بلدانها.

من الممكن لبلادنا أن تستفيد بشكل كبير من تعزيز قطاع ينتج الثروة والقيمة المضافة والوظائف. لهذا، وللقيام بذلك، من المهم أن ننظر إلى الأزمة الدولية الحالية والمستقبلية على أنها نافذة لفرصة حقيقية لبدء العمل، على الرغم من "المخاوف" التي قد تثيرها.

البعض يتوقع حدوث أزمة في سوق التصدير، لكن هذا إن لم نراع ما تمتلكه الدولة من مؤهلات أساسية، وهي: الأفراد المؤهلين، الحد الأدنى للأجور المنخفض بالنسبة للشركاء الاقتصاديين للبلاد، القرب الجغرافي الذي يسهل نقل السلع في أوقات الطوارئ، ووجود فئة شباب تشكل نسبة مهمة جدا في مجال الشغل والقدرة الإنتاجية العالية والفعالة.

فضلا عن ذلك، تتمتع بلادنا بإمكانيات نمو كبيرة في السوق الأوروبية والأمريكية، وكذلك في السوق الإفريقية التي مازالت نقاط قوتها وجاذبيتها كبيرة.

في مواجهة المنافسة غير الشريفة، سيكون من الحكمة إعلان الحكومة المغربية أن تأهيل القطاع الصناعي الوطني هو أولوية في برنامج إنعاشها للاقتصاد، وستستفيد من تنفيذ إجراءاتها للمواكبة والدعم مع توقع كميات كبيرة من المصنعين. وذلك في إطار تأهيل هذا القطاع للمنافسة الصناعية ولجعل المملكة ركيزة صناعية في إفريقيا إزاء منافسها الرئيسي في القارة، من خلال هذه الأزمة الاقتصادية، وبالتالي تعزيز قدرة البلاد على أن تصبح محورا صناعيا يخدم الشركاء الرئيسيين الاقتصاديين في الشمال والجنوب.

المهدي بنسعيد