أثبتت تجربة تولي حزب "العدالة والتنمية" ذي التوجه الإسلامي قيادة الحكومة لولايتين متتاليتين، وبما لا يدع مجالا للشك أن أكثر الناس ظلما وانتهاكا لحقوق الغير، هم في الغالب أولئك الذين يدعون الطهرانية ويتغنون بنشر العدل وإحقاق الحقوق، ويرفعون الشعارات الانتخابية البراقة حول محاربة الفساد والاستبداد، والدفاع عن المستضعفين والفقراء والمهمشين والمقصيين، وتحقيق الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية...

إذ مازالت ذاكرة المغاربة تحتفظ بحنق ومرارة ما فعل بهم عبد الإله ابن كيران الأمين العام السابق ورئيس الحكومة المنتهية ولايتها، عندما سمح لنفسه باتخاذ قرارات تعسفية ولا شعبية، وأبى إلا أن ينهك قدرتهم الشرائية من خلال تحرير أسعار المحروقات وإلغاء دعم المواد الأكثر استهلاكا، والإجهاز على أهم المكتسبات كالإضراب والتقاعد والوظيفة العمومية. وما يواجهونه اليوم في ظل الحكومة الحالية مع خلفه سعد الدين العثماني الذي يواصل تمريغ كرامتهم في الوحل والتضييق على حرياتهم...

بيد أن ما يهمنا هنا والآن، هو ما تتناقله هذه الأيام منصات التواصل الاجتماعي من تسجيل صوتي وأخبار حول عدم تصريح المصطفى الرميد وزير الدولة المكلف بحقوق الإنسان والعلاقات مع المجتمع والبرلمان، بالسكرتيرة "جميلة بشر" لدى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي التي وافتها المنية خلال الأيام الأخيرة، بعد أن قضت أزيد من عشرين سنة من العمل بمكتبه في الدار البيضاء...

والرميد القيادي الشهير في الحزب الأغلبي والوزير المثير للجدل، الذي قبل أن يكون وزيرا للدولة مكلفا بحقوق الإنسان والعلاقات مع البرلمان، وتولى قبل ذلك حقيبة وزارة العدل والحريات في الحكومة السابقة، كان محاميا بهيئة الدار البيضاء ومن أبرز النشطاء الحقوقيين، ورئيسا لمنتدى الكرامة لحقوق الإنسان، مما يقتضي أن يكون حريصا على حماية حقوق الإنسان ومناصرة المظلومين والمضطهدين، لكنه وغيره من قياديي الحزب "الإسلاموي" لا يحسنون للأسف سوى توظيف الخطاب الديني في التلاعب بعقول البسطاء ودغدغة عواطفهم، وممارسة ازدواجية الخطاب وتبرير إخفاقاتهم المتوالية في تدبير الشأن العام بالتستر خلف ستار المظلومية ونظرية المؤامرة.

فالعدالة التي ما انفك يتبجح بها الرميد وحزبه دون العمل على تكريسها، ليست قناعا يستعمل عند الحاجة من أجل التضليل، بل هي فضيلة إنسانية راقية إلى جانب الصدق والأمانة والحكمة. وهي إحدى الأماني التي تتطلع كل شعوب الأرض إلى تحقيقها، لما تكتسيه من أهمية بالغة في إقرار المساواة بين أفراد المجتمعات بلا تمييز والإسهام في إشاعة والسكينة والطمأنينة. والأصل فيها هو العدل الذي يعني الإنصاف وإعطاء المرء ما له من حقوق وأخذ ما عليه من واجبات، وقد ورد ذكرها في القرآن الكريم (سورة البقرة، الآية 48)، حيث قال تعالى: "واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولايؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون". فما عسى سيادة الوزير أن يقول غدا أمام الله، إذا كان ما تتداوله الأخبار على نطاق واسع صحيحا، ولن يكون إلا صحيحا مادام مصرا على الصمت، علما أنه لا يترك حدثا يخصه أو أحد القياديين بالحزب دون التدخل؟ !

والرميد ليس سوى نفس الوزير الذي سبق له التورط من قبل خلال الأيام الأخيرة من عام 2018 في الإخلال بواجب التحفظ، بأن أجاز لنفسه المس بالقضاء والتشكيك في استقلاليته، والانبراء للدفاع عن زميله القيادي في الحزب عبد العلي حامي الدين المتهم بالمساهمة في جناية القتل العمد مع سبق الإصرار والترصد، في ملف الطالب بنعيسى آيت الجيد. والذي قبل حتى أن تهدأ الزوبعة التي أثارها تسريبه لمسودة مشروع قانون "تكميم الأفواه" رقم: 20.22 المتعلق باستعمال شبكات التواصل

الاجتماعي وشبكات البث المفتوح والشبكات المماثلة، في خضم التنويه العالمي بما اتخذه المغرب من إجراءات احترازية وقائية واستباقية بقيادة ملك البلاد محمد السادس، لمواجهة تداعيات جائحة كورونا، والحفاظ على صحة وسلامة المواطنات والمواطنين.

ها هي روح "السكرتيرة" بمكتب المحاماة التابع له تطارده، وزاد من ترسيخ تورطه إصدار عائلة الراحلة بيانا تفند عبره ما حمله الشريط الصوتي المتداول بين الناس منذ يوم 15 يونيو 2020، والذي يتحدث فيه صاحبه عن عدم تسجيل الكاتبة قيد حياتها في صندوق الضمان الاجتماعي، وهي التي ظلت تشتغل كاتبة لديه منذ أن كان محاميا، وواصل استغلالها حتى بعد تعيينه وزيرا في ذات المكتب تحت وصاية إحدى بناته، دون أن يرق قلب أحدهما لحالتها الصحية المتأزمة والعمل على ضمان حقوقها الاجتماعية الواجبة، وهي التي أفنت زهرة شبابها في خدمتهما بتفان. فكيف يمكن تصديق ما ورد في "تكذيب" عائلة الفقيدة، إذا كانت على ما يبدو هي من كشفت عدم تسجيلها بالصندوق السالف الذكر؟

إننا لا نعلم إن كان وزير "حقوق الإنسان" أبرم صفقة سرية مع عائلة الفقيدة لطمس القضية، كما لا نعلم إن كان سيهنأ له البال وينام مرتاح الضمير بعد هذه المأساة الإنسانية الفظيعة، وهو الذي لم يفتأ يردد على أسماعنا تلك الأسطوانة المشروخة عن تخليق الحياة العامة ومحاربة الفساد والمفسدين والتصدي للإثراء غير المشروع وسواه،. ولكننا نعلم أنه قام بخرق سافر للقانون وحقوق الإنسان بحرمانه الراحلة من الحماية الاجتماعية، وأن الفضيحة أكبر من أي صفقة مهما علت قيمتها المالية، وأنها لن تمس شخصه وحده فقط، بل هي إساءة كبرى للحكومة وسمعة المغرب..



اسماعيل الحلوتي