الحلقة:1

تقديم:

هي سيرةٌ ذاتية مَحكيةٌ حكاها المناضل الأمريكي الزنجي الشهير-المسلم-مالكوم اكس، للكاتبِ الزِّنجي المعروف "أليكسي هاليي"، صاحب رواية "جذور".

لنفهمَ نوعيةَ النضال الأميركي الزنجي الذي انخرط فيه مالكوم اكس-المقتول عُنصرية-كما ورثه عن أبيه المقتولِ كذلك، نستعيدُ قولَه ذات يوم للمناضل الغني عن التعريف "مارتن لوثَر كينغ":

"لقد فعلتَ ما لم يفعلْه أحدٌ، أنهيتَ الفصلَ بين السود والبِيض في المراحيض، والحافلات، ولكن ذلك لم يكلِّفْ هذه البلاد شيئا. أما إنهاء فصلِ الزنوج الاقتصادي، فهو يُكلف مِئات الملايين من الدولارات، وأنا لا أرى كيف ستُحَقِّقُهُ بِمُجرد استِنهاض الهِمم".

المؤلفان:

مالكوم اكس: وهو معروف أيضا باسم: الحاج مالك الشباز، ولد بتاريخ 19 ماي 1925 بـ"أوماها"/ولاية "نِبراسكا" بالولايات المتحدة الأمريكية، ومات مقتولا بهارليم/ولاية نيويورك، بتاريخ 21 فبراير 1965.

اشتهر بكونه داعية مسلما، إفريقيا أمريكيا، وخطيبا نذر نضالَه لحقوق الإنسان بصفة عامة، وحقوق السود الأمريكيين، فاضحا السياسة العنصرية للحكومة الفدرالية الأمريكية.

أليكس هاليي:

كاتب إفريقي أمريكي، ولد بتاريخ 11 غشت 1921 بـ "اثاكا"، الولايات المتحدة الأمريكية. وتوفي بتاريخ 10 فبراير 1992 بـ "سياتل".

اشتهر بإصداره سنة 1965 سيرة مالكوم اكس، انطلاقا من حوارات مطولة أجراها معه قبل مقتله بقليل.

بعد مصرع الأب، طفولةٌ بؤسها أكثر من سوادها:

سأموت مقتولا، لا محالة، هذا شعورٌ لازَمني منذ وعيت. وهل سيلازمُك شعور بطول العمر، حينما يموت أبوكُ مقتولا من طرف البيض، بعد مقتل أربعة من إخوته الستة؟ وهل أفكر في حياة سعيدة وأنا أستمع إلى أمي، الحامل بي، تَحكي كيف أن جماعة "الكوكلوكس" البيض طوَّقوا منزلنا ذات ليلة ببنادقهم وهم يطلبون من أبي، القس، الخروجَ إليهم؟

انصرَفوا مُهددين أمي الحامل، التي أخبرتهم بعدم تواجُد أبي في المنزل.

هذه بداياتي، أنا "مالكوم اكس". عجبا، اليوم، يهاجمونني لأنني، في نظرهم، أشدُّ السود غضبا في أمريكا.

كان القس "أورلي" – والدي – من أتباع "ماركوس كارفي"، الذي كان يقول بعبثيةِ مُطالبة السود بحقوق مدنية لن تتحقق لهم أبدا بأمريكا، فما عليهم إلا ركوب "القطار الأسود" والعودة إلى أحضان أمهم إفريقيا. كان الاستعداد على أشده لهذا اليوم العظيم: يوم العودة.

رغم رحيل والدي الشجاع، من مكان إلى آخر، هروبا من جماعة القتلة البيض، أدْركَتْه في النهاية وقتلته شرَّ قتلة: قُتل بالرصاص، وسُجِّي جسدُه فوق سكة القطار لاصطناع حادثة انتحار، صدَّقَتْها حتى المصالح الاجتماعية فحرمتنا من حقوقنا في التعويض.

كيف لا يكون مالكوم اكس سيدَ الغاضبين، وهو يرى الناس وقد تجمهروا حول منزل الأسرة، والشرطة تطلب أمَّه؟

"أخذت الشرطة أمي إلى المستشفى، وطلبت منها التعرف إلى جثة أبي، لكنها أجفلت وأبت أن تنظر إليها، وأخيرا فعلت...

كان زنوج لانسينغ يتهامسون بذلك، وبأن اللفيف الأسود، وهو أبيض بالطبع، هو الذي قتله".

حدثت الفاجعة حتى والقس أورلي مُنزَو بعيدا، بأبنائه السبعة، في "لانسينغ، ميشيغان"، حيث قرر أن يعيش من زراعة أرضه، ومن الوعْظ في الكنائس، مُحققا الاستقلال الاقتصادي عن البيض، حسب تعاليم "كارفي".

من مواعظ أبي، التي أذكرها جيدا، خطبتُه التي تحدث فيها عن "القطار الأسود الآتي"، و"تصفيةِ كل الأمور استعدادا للرحيل".

عجبا، لا يتركُك البيض حتى حينما تقرر الرحيلَ عن قارتهم نهائيا.

يقدم زنوج "لانسينغ" النموذج المثالي الذي يُرضي البيض: مُجتمع من نادلي المقاهي، ماسحي الأحذية، والبوابين.

كنت أستمع إلى سود المدن، في مواعظ أبي، وهم يَجْأرون في أدعيتهم، طلبا لرَغَد العيش في الجنة. نعم مجرد رغد العيش الذي يتمتع به البيض هنا في دنيانا.

كنت أصرخ حتى في وجه أمي، طلبا للطعام، لأنني تعلمت باكرا أن على الإنسان أن يُحدِث الضجيج، إن أراد الحصولَ على شيء ما.

مالكوم اكس، نجم الرقص الزنجي، وصوفيا الشقراء:

بعد مقتل الأب بَذلتْ المصالح الاجتماعية ما في وُسعِها لتُصاب أمي بالكآبة، ثم بالوسَاوس، وُصولا بها إلى مستشفى الأمراض العقلية. تشتت الأسرة، ووُضع الإخوة، واحدا واحدا، هنا وهناك، لدى بعض الأُسر الخَيِّرة.

حينما وصلتُ إلى بوسطن، قادما من "لانسينغ ميشغان"، خلَّفت ورائي كلَّ تفاصيل شقائي، التي لن أثقل عليكم بها في هذا الحوار الذي أريده راقصا رقْص زُنوجٍ ليس لهم ما يُعَوِّضون به شقاءَهم اليوميَ غيرَ أكتافِهم وسيقانِهم "الكهربائية"، وهي تستجيبُ، لا إراديا، لصَخَب المراقص.

كانت "لارا"، وهي أختي من أبي، قد حفَرت بالأظافر موقعا لها بهذه المدينة، بل وتمكنَت من استقدام الكثير من سود لانسينغ للاشتغال في ما كان وقْفا على السود من حِرف. نصحتني في ليلتي الأولى، كما تنصح كل القادمين من الجنوب:

تعرف أولا على المدينة، اركب الحافلات والمترو وتجول، لأنك حينما تشتغل لن تجد وقتا لهذا أبدا.

تعرفت بسرعة على "شورتي" ابن لانسينغ الذي دلَّني على ماسح أحذية على وشك مُغادرة مكانِه بأحد نوادي الرقص.

هكذا أصبحتُ، بسرعة أيضا، ماسح أحذية، واقفا على باب الرقص، المخدرات، والفتيات.

تعجبتْ أختي "لارا" من سرعة اعتمادي على نفسي واندماجي في "فضائل" السود: البِدلة الفضفاضة، تسريحة "الكونك"، المشروبات الروحية، التدخين والماريخوانا. بقي الرقص، وهو عقدتي، فكيف ستنحل؟

حينما رقصت، لأول مرة، بتحريض من فتاة جذَبتني جذبا، اكتشفت أن الرقصَ كان يسكنني، كما يسكن كلَّ زنجي، منذ الأزل: "ما عليك إلا أن تدخل الحلبة، والبقية تأتي من نفسها"، في رقصة "الليندي" أو غيرها.

لكن "مامي" تختلف عن كل الراقصات: ألقتْ بنِعالها وصرخَت كأنها في رقص شعائري بأدغال إفريقيا، ثم لَكَزتْني ودفعتني إلى الحلبة وهي ترقصُ كحصانٍ جامح. بهذا الصخب المتوحش ابتدأت نجوميتي: هيا يا أحمر (لحمرة شعري) أين الأحمر؟ وما أن ألج الحلبة حتى تلُفَّني دوائرُ المُصفِّقين الثَّمِلين.

إلى أن رفعتُ ذات حفلة رأسي فوجدْتها ترمُقني: صوفيا الشقراء الفاتنة، التي لم تخالِط الزنوج قَطّ في حفلاتهم.

ها هي بين يدي، وطوعَ حركاتي، ولا عليها ألا ترقصْ كما ترقص الزنجيات. نسيتُ كلَّ شيء حتى الحبيبة "لورا" التي طفَقت تنظرُ إليّ بتوجس، وتتراجعُ وراء. وفي نهاية الحفلة أركبَتْني معها في السيارة وساقت في نواحي بوسطن، إلى أن بدا لها أن تتوقَّف وتطفئ الأنوار.

"وبدأ الزنوج يعاملونني باحترام وكأنني لم أكن في نظرهم، إلى حين، واحدا من ذَوي الشعور الملينة والبِدلات الفضفاضة، بعدما بدأت أظهرُ بينهم وهذه الشقراء التي لم تر العينُ مثلها إلى جانبي، وليس هذا وحسب، وإنما شقراءٌ حسناء بسيارة فاخرة، تُعطيني فوق ذلك كله النقودَ التي أنفقها".

في أوساط البيض لم يكن مقبولا منها، وهي البيضاء، المتزوجة الثرية، أن تخرج مع أسودَ، ولهذا، كما أخبرتني، كانت تُمَوِّه بالخروج مع بعض البِيض.

هجرتْني "لورا"، وتحولت حياتي إلى جحيم مع أختي، بعد أن تأكدَتْ من علاقتي بصوفيا الشقراء، حتى غادرتُ منزلَها إلى السكَن مع "شورتي" بإيجار تدفعه صوفيا، لأنني هجرتُ عملي أيضا. "ها أنتم ترون كيف يُقاسي الأسود حتى حينما يحبه الأبيض".

قلب هارليم، عالم يَعُجُّ سودا، ومروقا عن القانون:

يتبع...

 

رمضان مصباح الإدريسي