توافقت ثلاث إردات من دون سابق تنسيق أو تعارف؛ إرادة صاحب جريدة مشهورة، انتقل من تأييد الحكومة إلى معارضتها من دون سابق إنذار، وإرادة المساهمين في "بنك مركزي"، تضرورا من قرار تعويم العملة، وارتفاع سعر الواردات، وإرادة قائد مظفر بالأوسمة، لم يستسغ قرار إعفائه من مسؤوليته، من قِبل حكومة لم تحقق أي شيء، حسب وجهة نظره، ويتزعمها شخص نكرة لا أمجاد له، فتمت الدعوة إلى اجتماع احتضنه مقر البنك، ودار الحوارالآتي:

الداعون للاجتماع: الدولة مفلسة، وحلفاؤنا يائسون، وأمننا القومي ضعيف، وإذا استمر هذا الوضع، فسنصبح دولة تابعة ومنبوذة. بل تَزيّد كبيرهم، بالقول: أُفضّل الموت على أن أقف مكتوف اليدين، ولذلك وضعت أنا وزملائي خطة لإعادة الدولة إلى وضعها الطبيعي.

سألهم القائد المغبون: ماهي؟

أجابوا: تغيير رئيس الحكومة، وتعيين حكومة طوارئ جديدة، لأننا نريد شخصا يوحد الشعب، ويكسب احترامه. شخصا تولى منصبا قياديا في ما سبق. ولهذا فإننا لن نجد من هو أفضل منك لتولي هذه المهمة.

أجابهم القائد المغبون: الآن علي أن أضع أصبعي في أذني، حتى لا أسمعكم. فأنا وإن كانت لدي تحفظات كثيرة على رئيس حكومتنا، إلا أن ما تتحدثون عنه يحمل عنوان انقلاب في حقيقة الأمر، وأنا لا يمكنني أن أقبل به، وقد عشت طيلة حياتي أدافع عن الديمقراطية.

ردوا عليه: ما تقوله ينطبق على الأحوال العادية، أما الوضع الحالي، هو يؤشّر على أزمة، كما أنه لم يكن لنا أن نقبل بتجاوز الدستور لولا الأزمة التي تمر منها البلاد.

ولأنهم أصروا عليه، وأحاطوا به من كل جوانب، وأمعنوا في إيقاض ما انطوت عليه نفسه من طموح، فإنه طلب منهم مهلة للتفكير، ضربا لهم موعدا في بيته. ولما زاروه بعد انصرام المهلة، وجدوه وقد غير رأيه، وراح يشرح لهم كيف أن إمكانية إحداث انقلاب على الحكومة أمر غير ممكن، من دون مساعدة "العرش" من خلال حل البرلمان، والإعلان عن حالة الطوارئ، وتهيئ الشعب لانتخابات جديدة، يفوز فيها التيار المعارض لحزب رئيس الحكومة. وقد تكلف المعني بالأمر بأن يستغل قربه من العرش، لكي يُقنع الجالس عليه، بضروة التخلي عن دعم الحكومة.

في ظل هذه الترتيبات، اتصل رئيس الحكومة بالقصر، ونقل إليه إخبارية تؤكد وجود مؤامرة على الحكومة. وعلى إثر هذه الاتصال، تم استدعاء القائد المغبون إلى القصر، من أجل استفساره عن حقيقة الموضوع. إلا أنه ما إن برَح مكتب الاجتماع داخل القصر، حتى بادر إلى تأكيد الرواية، وشرع في بسط حججه من أجل الوصول إلى هدفه المتمثل في إقالة رئيس الحكومة، وتعيين حكومة طوارئ جديدة، بمشاركة شخصيات قادمة من عالم الأعمال، تعيد للبلاد اعتبارها، فساد النقاش الصاخب التالي:

القائد المغبون: لماذا تدافع عن رئيس حكومة ضعيفة؟

التاج: لا أدافع عن رئيس حكومة، وإنما أحمي الدستور، وأحمي الديمقراطية.

القائد: ولكن قلب تلك الديمقراطية، هو من يسعى إلى تدميرها. فهل نبقى مكتوفي الأيدي دون أن نفعل شيئا؟

العرش: عدم فعل شيء، هو ما ينبغي أن نقوم به، حفاظا على صلاحيات كل مؤسسة دستورية، وما علينا إلا أن ننتظر ال الذين جاؤوا برئيس الحكومة من خلال صندوق الانتخاب أن يطردوه بنفس الصندوق، إن كانت تلك هي رغبتهم أصلا. ثم نظرت الملكة إلى زعيم الانقلابيين، وهو بالمنسابة خالٌ لزوجها، وأضافت: أعلم أنك خُلقت للعمل، وأنك تفتقد المسؤولية والزعامة، وتريد أن يكون لك موقع في السلطة، لكن هذا لن يكون عبر الانقلابات غير الدستورية.

لا أدري إن كان هذا ما حصل بالفعل سنة 1967، خلال حكومة "ويلسون" الأولى مع معارضيها في بريطانيا، وموقف الملكة "إليزابيت الثانية" من محاولة إزاحة هذه الحكومة خلافا للترتيبات الدستورية، أم أن الحلقة الخامسة من الموسم الثالث من المسلسل الشيق (The Crown) قد اختلقته. لكن الذي هو أكيد وغير مشكوك حوله، وليس من وحي خيال كاتب مسلسل عالمي يكي قصة قصر "باكنغهام" والجالسة على عرشه، هو الحدث الذي تتبعنا فصوله أواخر سنة 2019، عندما أبان الشعب البريطاني ومؤسساته السياسية والقضائية عن رسوخهم من حيث احترام أعرافهم القانونية والدستورية (مع التسطيرعلى عبارة أعرافهم (هم) وقوانيهم (هم)، أما الرسوخ في الديمقراطية فهذا أمر فيه نقاش كما هو حال كل الديمقراطيات).

ودونما توقف عند تفاصيل ما حدث، فإن إجمال الموضوع يتعلّق بممارسة غير ديمقراطية كد أن يجعلها الوزير الأول البريطاني عرفا، لولا أن تصدى له الشعب والقضاء والمعارضة البرلمانية. وذلك عندما نَصح "بوريس جونسون" الملكة "إليزابيل الثانية" بتعليق البرلمان لمدة خمسة أسابيع إضافية، حتى يتمكن هو من تمرير الخروج من الاتحاد الأوروبي من دون صخب المعارضة وتشويشها. ولأن الملكة ما كان في وسعها رفض "نصيحة/طلب" رئيس حكومتها، لأنها لا تملك الصلاحيات ولا القوة لذلك، فإنها طأطأة رأسها بالموافقة (رغم أن تقارير إعلامية ابريطانية ـ لم يؤكدها القصر ـ نشرت أن الملكة فكرت في إقالة جوسنون لكنها لم تجد السند القانوني)، ومع ذلك فهي لم لم تتلق لوم الشعب ولا لوم المعارضة، وإنما توجّه الشعب إلى الشوارع وتوقيع العرائض ضد القرار الذي وصفوه بالمستبد، بينما توجهت المعارضة إلى القضاء لاستصدار حكم يوقف القرار.

ولأن المسألة غير محسومة كليا، ما دام يمكن تعليق جلسات البرلمان بمناسبة انعقاده المؤتمرات الحزبية الرئيسة، فإن المحكمة الأولى التي قصدها نواب البرلمان، قد رفضت البث في الموضوع، بذريعة أن القضية سياسية وليست قانونية حتى تبث فيها. طبعا، لم ييأس النواب من الأمر، وإنما أعادوا التوجه إلى محكمة أخرى، قضت هذه المرة بلا قانونية قرار "جونسون"، معتبرة إياه محاولة لمنع البرلمان من القيام بمهمته الرقابية. غير أنه، وبقدر ما ابتهجت المعارضة، فإن القرار لم لم يرق الحكومة ومناصريها، فتوجهوا بدورهم إلى استئناف الحكم الابتدائي الذي قضت به محكمة في اسكتلندا (تضم بريطانيا: إنجلترا، اسكتلندا، ويلز وإيرلندا الشمالية) أمام المحكمة العليا (تم إحداثها سنة 2009، وتتكون من رئيس وأمين عام وعشرة قضاة، يتم تعيينهم بطريقة معقدة باشتراك لجان التعيين ووزير العدل ورئيس الحكومة وبمباركة من الملكة)، متمنين أن تأتيهم بحكم مخالف لقرار المنع، إلا أن الحكم جاء مرة أخرى بما لا تشتهيه رياح مناصري "جونسن"، إذ قررت المحكمة أن القضية مقبولة شكلا، أي أن لها زاوية قانوينة يمكن للمحكمة أن تسستند عليها، أما مضمونا، فقد رأت المحكمة أن قرار الحكومة بتعليق جلسات البرلمان لمدة مؤقتة، يحول دون قيام الأخير بعمله الذي يتجلى في التشريع ومراقبة السلطة التنفيذية، بل زادت المحكمة الأمر تفصيلا ، بأن وجدت في: "نصح جونسون للملكة بتعليق عمل البرلمان، إنما هو مسألة غير قانونية، ومن شأنها التأُير على الديمقراطية البريطانية"، وختمت المحكمة قرارها بعبارة حاسمة: "قرار تعليق جلسات البرلمان، غير قانوني، وباطل، ومن دون تأثير".

طبعا، القرار لم يذهب بعيدا نحو توجيه الأمر للبرلمان لكي يجتمع، فهذا أمر ليس من صلاحياتها، ولم "تتأسف" لأن الوزير الأول اتخذ ذلك القرار، لأن لغة المشاعر ليست ضمن القاموس القضائي، وإنما تركت أمر اتخاذ القرارا للمعنيين بالأمر، وهنا انتهى عمل المحكمة العليا، التي أبانت عن استقلاية تامة عن كل المؤسسات، وبدأ عمل البرلمان والحكومة، إذ دعا المتحدث باسم مجلس العموم البرلمان للانقعاد الفوري، وأما الحكومة، فهي لم تذهب للبحث عن حِيل أخرى لدى خبراء القانون، وإنما صرح رئيسها، بأنه سيحترم قرار المحكمة رغم أنه يخالفها، وأسدل الستار على الجانب القانوني للموضوع، رادّا إياه إلى طبيعته السياسية. وذلك من خلال الدعوة إلى انتخابات جديدة، بما أنه قد تأكد لديه أن الحيل غير الديمقراطية لمنع المعارضة من القيام بواجبها، لم تعد ممكنة في ظل وعي شعبي عارم، ومؤسسات دستورية لم تمنعها محافظتها من الانتصار للقيم الديمقراطية، ولم ترفض أن تبث في قضية أحالها عليها حزب عمالي تقدمي، ولم تر في الموضوع قرارا سياديا بذريعة أن الملكة قد أحاطته بموافقتها، بل اسستحقت الملكة اعتذارا من الذي "طلب/نصحها" بتعليق البرلمان، وذلك بأن اتصل بها جونسون مباشرة بعد صدور القرار النهائي للمحكمة العليا، واعتذر لها عن طلبه تعليق عمل البرلمان!

عبد الرحيم العلام