بين المقال والطلب .. من العسر إلى اليسر في ظل نصوص التشريع وبعيدا عن التفسير الفقهي "القضائي" لرئاسة المحكمة التجارية بالدار البيضاء

تتبعت، كغيري من المحامين، النقاش القانوني الذي أثاره، نهاية الأسبوع المنصرم، الموضوع الذي تفضل بإلقائه السيد رئيس المحكمة التجارية بالدار البيضاء بمناسبة الندوة الرقمية المنظمة يوم الخميس 4 يونيو الجاري في موضوع "تأثير جائحة كورونا على مساطر معالجة صعوبات المقاولة"، المتعلق بمدى إمكانية تقديم الطلب المنصوص عليه في المادة 576 من مدونة التجارة، وبفتح مسطرة التسوية القضائية، من طرف رئيس المقاولة شخصيا ودون محام.

اطلعت على جزء من مداخلة السيد الرئيس، ففوجئت لما أشار إليه من إمكانية تقديم طلب التسوية القضائية المذكور دون استلزام نيابة المحامي.

وفوجئت لما توقفت على أن السند القانوني الذي اعتمده في هذا الصدد هو كون المشرع لم يشر في المادة 576 إلى مصطلح "المقال" بل استعمل كلمة "الطلب".

وفوجئت أكثر لما سمعت إشارة إلى معيار عسر المقاولة صاحبة الطلب المقدم في إطار مقتضيات المادة 576، في مقابل يسر الدائن الذي يرفع المقال عملا بمقتضيات المادة 578.

وزادت دهشتي لما سمعت أن مؤسسة الرئاسة في المحكمة التجارية بالدار البيضاء تعتبر أن المشرع قد أعفى رئيس المقاولة من الزامية اللجوء للمحامي بخصوص الطلبات المقدمة في إطار مساطر الوقاية الخارجية.

فوجدتني مضطرا، بحكم موقعي كمسؤول مهني، وبحكم منصب المسؤولية الذي يتقلده السيد الرئيس، إلى الإدلاء بدلو هيئة المحامين بالدار البيضاء في هذه المسألة.

لا يختلف اثنان على أن "الطلب القضائي" هو موضوع الدعوى الذي يعرض على القضاء، أي إنه ما يرفعه المتقاضي إلى نظر المحكمة ملتمسا الحكم له به. أما "المقال" فهو السند المادي الذي يقدم به الطلب القضائي المكتوب إلى الهيئات القضائية المنتصبة للقيام بمهام القضاء، أي إنه الوعاء الذي يتضمن، من بين ما يتضمنه، الطلبات أو الملتمسات التي يسعى المتقاضي إلى اقتضائها عن طريق المحكمة.

ولا أدل على ذلك من مقتضيات الفقرة الثانية من الفصل 32 من قانون المسطرة المدنية التي نصت على أنه "يجب أن يبين بإيجاز في المقالات والمحاضر علاوة على ذلك موضوع الدعوى..."، ومقتضيات الفقرة الثالثة من الفصل نفسه التي تنص على أنه "إذا قدم الطلب بمقال مكتوب ضد عدة مدعى عليهم وجب على المدعي أن يرفق المقال بعدد من النسخ مساو لعدد الخصوم"، ومقتضيات الفقرة الأولى من الفصل 142 من القانون نفسه التي نصت على أنه "يجب أن يتضمن المقال (...) وأن يتضمن كذلك موضوع الطلب..."، ومقتضيات الفصل 354 من القانون ذاته التي تنص على أنه "ترفع طلبات النقض والإلغاء المشار إليها في الفصل السابق بواسطة مقال مكتوب موقع عليه من طرف أحد المدافعين المقبولين للترافع أمام محكمة النقض"، وعدد من المقتضيات القانونية الأخرى المتناثرة في فصول قانون المسطرة المدنية التي تشير صراحة أو عرضا إلى أن الطلب يقدم بمقال مكتوب.

أما بخصوص التفسير المعتمد على التمييز بين "الطلب" و"المقال"، فتفسير مردود ومخالف للمنطق وللقانون، لسببين اثنين على الأقل.

فأما أولهما فسبب عــقــلـــي يتلخص في أن التمييز بين "الطلب" و"المقال" على النحو الذي نناقشه، ينطوي على نتائج خطيرة وغير مقبولة على النظام القانوني المغربي، نتائج لم يسبق أن قال بها أحد، ولم نكن نتوقع أن يكون مصدرها رئاسة أكبر محكمة تجارية في المملكة.

فالقول بهذا التفسير من شأنه أن يحول دون استحقاق الرسم القضائي النسبي المنصوص عليه في الفصل 24 من الأحكام المطبقة على المصاريف القضائية في القضايا المدنية والتجارية والإدارية على المقالات الصادرة عن المحامين، لأن هذا الرسم لا يحتسب إلا على أساس مجموع "الطلب"، ولأن الفصل 24 لا يشير مطلقا إلى مصطلح "المقال". فهل يعتبر هذا التفسير مقبولا أو منطقيا؟

والقول بهذا التفسير سيؤدي إلى إقصاء عدد كبير من الدعاوى القضائية المنصوص عليها في نصوص قانونية موضوعية من دائرة النيابة الإلزامية للمحامي.

فيكفي الرجوع مثلا إلى مدونة التجارة للوقوف على أن المشرع لم يستعمل لفظ "المقال" إلا مرتين اثنين في المادتين 576 و761، في حين نصت المدونة على عدد كبير من الطلبات التي تعرض على الأجهزة القضائية بالمحكمة والتي يتعين عليها الفصل فيها بناء على سلطتها القضائية، ومن بينها طلب بيع الأصل التجاري (م103 و113 و114)، وطلب الوفاء بدين مرتبط باستغلال أصل تجاري (م118)، وطلب ترتيب الدائنين (م146)، وطلب التصريح بحلول آجال الديون (م152)، وطلب الأجل المقدم من طرف ضامني الكمبيالـــة (م196)، وطلب الحجز المقدم من طرف حامل الكمبيالة (م208)، وطلب فتح مسطرة المصالحة (م551)، وطلب فتح مسطرة الإنقاذ (م561)، وطلب فسخ مخطط الإنقاذ (م573)، وطلب تمديد المسطرة (م585)، وطلب توقيف المقاولة عن نشاطها (م587)، وطلب إبطال العقود المبرمة خرقا لقاعدة عدم القابلية للتفويت (م618 و626 و644)، وطلب تغيير أهداف ووسائل مخطط الاستمرارية (م629)، وطلب فسخ مخطط الاستمرارية (م634)، وطلب فسخ مخطط التفويت (م645)، وطلب تعيين متصرف خاص (م646)، وطلب فتح مسطرة التصفية القضائية (م651)، وطلب الأمر بأداء مسبق لقسط من الدين (م662)، وطلب إعادة فتح مسطرة التصفية القضائية (م669)، وطلب بيع المنقول (م686)، وطلب بطلان العقود أو التسديدات المخالفة لمقتضى منع الأداء (م691)، وطلبات الممثل الأجنبي المتعلقة بالولوج إلى المساطر الوطنية والاعتراف بالمساطر الأجنبية (م776 و781 و786 و787).

والأمر نفسه ينطبق على القانون 17.95 الذي لم ينص على مصطلح "المقال" إلا مرتين أيضا في المادتين 340 و352، في الوقت الذي تطرق لعدد كبير من الطلبات القضائية التي من بينها طلب الأمر بتسوية عملية تأسيس الشركة (م12)، وطلبات تعيين الوكلاء (م15 و49 و89 و116 و300 و343)، وطلب الأمر بالدعوة لدفع الأموال غير المحررة (م21)، وطلب تعيين مراقب التحويل (م36)، وطلب تعيين عضو بمجلس الإدارة الجماعية بصفة مؤقتة (م79)، وطلب تعيين مراقب (م112)، وطلب تمديد أجل عقد الجمعية العامة (م115)، وطلب الأمر بالعمل على تمكين المساهم من الاطلاع على الوثائق (م148)، وطلب تعيين خبير (م157)، وطلب الأمر بإيداع القوائم التركيبية (م158)، وطلب تجريح مراقب الحسابات (م164)، وطلب تعيين مراقب الحسابات (م165 و179 مكرر)، وطلب إعفاء مراقب الحسابات (م179)، وطلب تمديد أجل أداء الأرباح المصوت عليها (م332)، وطلبات حل الشركة (م358 و426)، وطلب المصادقة على حسابات المصفي (م369)، وطلب الموافقة على ملاءمة النظام الأساسي (م445).

أما القانون 5.96 فلم يشر على الإطلاق لمصطلح "المقال"، إلا أنه نص على مجموعة من الطلبات القضائية؛ منها طلبات تعيين مراقبي الحسابات (م12 و80 و87)، وطلبات تعيين الخبراء (م14 و82)، وطلبات عزل المسير (م32 و69)، وطلبات حل الشركات (م49 و86)، وطلب الأمر بالدعوة لدفع بقية مبلغ رأس المال (م51)، وطلب تعيين مراقب الحصص (م53)، وطلب تمديد أجل الموافقة على التفويت (م58)، وطلب تعيين وكيل (م71)، وطلب إبطال القرارات المتخذة خرقا للمادة 76 (م76)، وطلب تعيين مراقب الحصص (م78)، وطلب تمديد أجل أداء الأرباح المصوت عليها (م83 مكرر)، وطلب الموافقة على ملاءمة النظام الأساسي (م122).

فهذه كلها أمثلة لنصوص قانونية، وغيرها كثير، استعمل فيها المشرع مصطلح "الطلب" دون "المقال". فهل يمكن القول، أو حتى التفكير، بأن هذه النصوص تثير أي مجال للشك حول ضرورة تقديم الطلب المنصوص عليه فيها أمام القضاء التجاري بواسطة مقال يوقعه محام؟ الجواب قطعا بالنفي لسبب بسيط وهو أن الأمر يتعلق في هذا المجال بتنظيم نقط قانونية موضوعية الغرض منهـا تحديد الحق الذي يمكن لصاحبه المطالبة به قضاء، في الوقت الذي يعتبر تنظيم شكليات تقديم الدعوى مسألة مسطرية وإجرائية تختص بها قوانين الشكل.

وأمــا ثانــي السببين فإنــه لــفـــظــــي، ويستند إلى مقتضيات المادة 31 من القانون 28.08 التي تنص على أنه "لا يسوغ أن يمثل الأشخاص الذاتيون والمعنويون والمؤسسات العمومية وشبه العمومية والشركات، أو يؤازروا أمام القضاء إلا بواسطة محام، ما عدا إذا تعلق الأمر بالدولة والإدارات العمومية تكون نيابة المحامي أمرا اختياريا".

فهذا المقتضى القانوني صريح وواضح وضوح الشمس بأن المحامي هو الواسطة الوحيدة بين القضاء والمتقاضين، كيفما كان نوع الطلب أو الملتمس المراد عرضه على المحاكم، إلا ما استثني بنص خاص كالحالتين المنصوص عليهما في المادة 31 المذكورة، والحالات التي حددتها الفقرة الأولى من المادة 32 من القانون 28.08، وغيرها من الحالات التي يكون القانون قد أشار فيها بصفة صريحة إلى إمكانية اللجوء للقضاء دون محام.

والجدير بالملاحظة في هذا الصدد أن المادة 31 من القانون 28.08 لا تقتصر على الإشارة إلى "تقديم المقالات" بقدر ما تنظم "تمثيــــل الأشخاص أو مؤازرتهم أمام القضاء"، بحيث استعمل المشرع عبارات واسعة جامعة شاملة غير قابلة لأي تقييد، تنصرف إلى كافة أنواع التمثيل وتوضح بما لا يدع مجالا لأي شك أنه لا يمكن للشخص المطالبة بحقوقه ولا الدفاع عن نفسه أمام القضاء، مطلقا، إلا بواسطة محام، ما لم ينص المشرع على الاستثناء صراحة.

هـــذا، وأعتذر عن اضطراري التذكير بمبدأ عام في إجراءات التقاضي أمام القضاء التجاري. فلا يخفى على أحد من الممارسين أن الدعوى ترفع إلى المحكمة التجارية بمقال مكتوب يوقعه محام مسجل في هيئة من هيئـات المحامين بالمغرب، عملا بمقتضيات المادة 13 من القانون 53.95، ولا يستثنى من هذه القاعدة إلا الحالة المنصوص عليها في الفقرة الثانية من المادة 32 من القانون 28.08 (التي عوضت الفقرة الثانية من المادة 31 من الظهير الشريف رقم 1.93.162 بتاريخ 10 شتنبر 1993).

ومعنى ذلك، بغض النظر عن أي مناقشة قانونية أخرى، أن قبول أي دعوى مرفوعة إلى المحكمة التجارية يتوقف على تقديمها في شكل مقال موقع من طرف محام مسجل في إحدى هيئات المحامين بالمغرب، أو محام تتوفر فيه الشروط المنصوص عليها في الفقرة الثانية من المادة 32 من القانون 28.08.

والثابت قانونا أنه لئن كان الطلب أهم عنصر من عناصر الدعوى، إلا أنه ليس في نهاية المطاف إلا مكونا من مكوناتها، أي إن ما ينطبق على الدعوى المرفوعة إلى المحكمة التجارية يسري من باب أولى على الطلبات التي تعتبر موضوع هذه الدعوى. فيكون التساؤل المطروح في الواقع هو كيف يمكن تصور تقديم أي طلب، أمام أي جهاز من الأجهزة القضائية بالمحكمة التجارية، دون نيابة المحامي في ظل صراحة ووضوح المادة 13 من القانون 53.95؟ وكيف يمكن لرئيس المحكمة التجارية بالدار البيضاء أن يقر بإمكانية تقديم أي طلب أمام هذه المحكمة أو أي جهاز من أجهزتها القضائية دون أن يكون موقعا من طرف محام؟

إن الخلاصة من كل ما سبق هي أن التطبيق الحرفي والسليم للقانون، متى أراد القضاء التقيد بالقانون، يمنع في الواقع، في غير الاستثناءات التشريعية الصريحة، لجوء المتقاضين بصفة مباشرة إلى الهيئات القضائية بالمحاكم التجارية، ويحول دون عرض أي ملتمس غير مقدم بواسطة محام على هذه الهيئات القضائية، بغض النظر عن مدى إمكانية تصور أي تمييز بيـن "المقال" و"الطلب"، ما دام المتقاضي صاحب المصلحة والحق في رفع الطلب وتقديم الملتمسات عديم الأهلية في تمثيل نفسه أمام المحكمة التجارية.

وهذه القاعدة واجبة التطبيق، في الواقع، على جميع الطلبات والمذكرات التي تعرض على أي جهة قضائية بالمحكمة، سواء تعلق الأمر بما يرفع منها لرئاسة المحكمة أم للقاضي المنتدب أم لقضاء الموضوع أم لغيرها من الأجهزة المنتصبة للقيام بمهام القضاء.

لقد آن الأوان لإرجاع الأمور إلى نصابها وللتقيد بنصوص القانون، إذا كان هاجس القضاء فعلا هو إعلاء صوت القانون وترسيخ قدسية القاعدة القانونية. فمن غير المقبول، في ظل صراحة النصوص القانونية الجاري بها العمل حاليا، أن نسمع بإمكانية تقديم مساطر الوقاية الخارجية دون محام ولا بكون السنديك معفى من إلزامية تنصيب المحامي. فالمحامي هو الشخص الوحيد الذي يمكنه أن يمثل المتقاضي أمام القضاء، إلا ما استثناه المشرع صراحة.

أما بخصوص معيار اليسر أو العسر الذي أثير عرضا في مداخلة السيد الرئيس، فلئن كنت أستحيي من الخوض فيه، إلا أنني مضطر إلى التذكير بنقطتين اثنتين؛ أولاهما أن هناك نظاما قانونيا للمساعدة القضائية التي يسهر على التمتيع بها، متى ثبت استحقاقها، مكتب محدث لدى المحكمة، ويترتب على منحها تعيين محام من طرف النقيب قصد القيام بمهام الدفاع بصفة مجانيــة.

وثــانـــي النقطتين أنه لو كان اليسر معيارا، لكان من باب أولى على القضاء اعتماده عند تعيين الخبراء والسنادكة، وإعفاء رؤساء المقاولات المعسرة –بل وأي متقاض معسر– من التزام إيداع أي مبلغ لتغطية الصائر المستحق في هذا الصدد.

أرجو أن تكون هذه الأسطر قد وفت بالمقصود، مؤكدا أن السبب الذي دفعني إلى التطرق للموضوع ليس هو النقاش القانوني المفصل أعلاه، لأنه من أبجديات القانون الإجرائي الذي لم يكن له في الواقع أن يثار نظرا لصراحة نصوص التشريع، وإنما هاجسي الأساسي هو موقع السيد رئيس المحكمة التجارية بالدار البيضاء وصفته كمسؤول قضائي في أكبر محكمة تجارية بالمملكة، وما يمكن أن يترتب عنهما من تأثير أدبي بمناسبة تفسير القانون وتطبيقه.

حسـن بيرواين