مثير للانتباه ما خلّفته وفاة الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي من أصداء، وما حظيت به شخصيته من إجماع همّ جل الشرائح الاجتماعية، وما عبرت عنه جل الأطراف، القريبة والبعيدة، بمختلف تلاوينها واختياراتها، الفكرية والسياسية، من تقدير لأثره واعتبار مقدر لما أسداه لبلده من خدمات.

المؤكد أن هذا اللون من الإجماع السياسي والأخلاقي معا يعد من أكبر الدروس التي يحسن بنا استفادتها من هذا الرجل الكبير؛ فما أقل الرجال والنساء الذين اشتغلوا بالسياسة في بلادنا وتمكنوا من إخضاعها لمنطق النبل والشرف وبعد النظر ومصلحة الوطن، وما أحوج بلادنا اليوم إلى أخذ العبرة وتعلم الدروس، عبر قراءة متأنية لمسارات هذا اللون من الرجال والنساء الذين يغادروننا على حين غرة ويتركوننا لمتاهاتنا ومضايقنا التي لا تنتهي.

إن هذا الإجماع النبيل، الذي حظي به السي عبد الرحمان، يقتضي استخلاص جملة دروس، يمكن إجمال بعضها فيما يلي:

أولا: أن الوطن يميز جيدا بين خدامه الأحرار وبين الأنانيين الذين يبحثون عن شرف لا يستحقونه، وأن المواطنين بمختلف شرائحهم يميزون بين المخلصين من الساسة لقضاياهم الرئيسة وبين المتلاعبين والأنانيين، والزمن كشاف، وحبل الكذب قصير، والتاريخ لا يحابي أحدا، ويكفي أن نستعرض المسارات السياسية لمجمل الشخصيات التي اشتغلت بتدبير الشأن العام في بلادنا، منذ الاستقلال إلى اليوم، لنرى الحصيلة، ولنتأسف على ندرة المعادن النفيسة، التي ساهمت بحق في كتابة التاريخ الجميل لهذا البلد؛ فأكثر الشخصيات السياسية في بلادنا هي شخصيات لأحزابها، وأثرها لا يتجاوز عتبة مقرات هيئاتها السياسية، مع ما يعني ذلك من إخوانيات وتملقات ومبادلة للمصالح والمغانم والأنانيات.. ولذلك، نتأخر ولا نتقدم..

والإجماع المستحق، الذي يصحب شخصيات من لون السي عبد الرحمان، يحمل رسالة قوية وواضحة مفادها أن التغيير الحقيقي يحتاج إلى رجال وإلى نساء من هذه الطينة، وأن هذا النوع من الساسة مطلوب الآن.. فما فائدة الثناء على المرحوم، إذا كنا لا نريد أن نكون مثله، وغير مستعدين لتقديم التضحيات لبلوغ ذلك؟ أكثر المتحدثين عن سي عبد الرحمان اليوم ليسوا مثله، ولا يريدون ذلك، ولا يهمهم أن يكونوا مثله، فما الذي يبقى إذن؟، وما الفائدة من الكلام؟ .

ثانيا: أن العظماء، على مر التاريخ، يعرفون بأعمالهم ومنجزاتهم، قبل أن يعرفوا بكلامهم وبلاغة خطاباتهم، ويتجهون إلى عمق الأشياء، ويقدرون جيدا معنى المصالح العليا للوطن. وأكثر المتحدثين عن الأستاذ اليوسفي أثنوا على صمته الطويل، وإدراكه العميق، لمهامه التي كلف بها، وأهمها (المحافظة على الإرث الثقيل والنوعي لحزبه، المساهمة في إخراج البلاد مما سمي بالسكتة القلبية، المساهمة في عملية انتقال العرش إلى الملك الجديد، المساهمة في ضمان السير العادي للمؤسسات، حماية الإجماع الوطني)، وكل ما تبقى تفاصيل وتنويعات على هذا الأساس، وما أكثر المشتغلين بالتفاصيل والخائضين في الجزئيات والهوامش، باسم النقاش السياسي، أو ما يسمى نقاشا، والذي لا يتمخض عنه شيء في النهاية، عدا الكلام والمزيد من إذكاء الخصومات الصغيرة.

عيب أن نضيع كبارنا مرتين، نضيعهم أحياء، ونضيعهم أمواتا، حين لا ندري كيف نستفيد من إرثهم، ولا نحسن قراءة تجاربهم، ومساراتهم الصعبة والموفقة.

 

إبراهيم أقنسوس