هل يمكن أن يصبح التاريخ أيضا ذلك الحاضر الباذخ الذي نتابعه باهتمام وشغف؟ وليس فقط ذلك الماضي الذي يُروى؟ أو بتعبير آخر، هل يمكن أن نشاهد الراهن وهو يتحول أمام أعيننا إلى تاريخ؟ لقد كان هذا هو التصور الأولي لإمكانية كتابة تاريخ الزمن الراهن قبل أن يتحول إلى مجال بحثي خاص، على الرغم من ندرة المختصين فيه. وقد لقي تاريخ الراهن أو الفوري تهميشا كبيرا من لدن المؤرخين المحترفين وواجهوه بجملة من التحفظات، فاسحين المجال للصحافيين والمختصين في السياسة أو الاقتصاد للاستفراد بالكتابة في هذا المجال. وإزاء هذه التحفظات، يرصد الدكتور فتحي ليسير في كتابه المُعنون بـ: "تاريخ الزمن الراهن.. عندما يطرق المؤرخ باب الحاضر"، موقف مدرستين تاريخيتين كبيرتين من التدوين التاريخي الراهن هما: المدرسة المنهجية الوضعانية، ويتمثل موقفها في أن مهمة المؤرخ تتمثل أولا وأخيرا في البحث في الماضي بالمعنى الحصري ومدرسة الحوليات، ويقوم موقفها على الاهتمام الكبير بالحاضر في ربط محكم بينه وبين الماضي باعتبار الغاية من البحث التاريخي جلاء الحاضر وتوضيحه.

إلا أن الاهتمام بهذا التاريخ قد عرف تراجعا كبيرا حتى مع مدرسة الحوليات نفسها، إذ عاد الحصار ليطال مجددا تاريخ الزمن الراهن. وأمام هذه المتغيرات، يمكن أن نطرح سؤالا نصوغه على الشكل التالي: من يكتب تاريخ الراهن؟ هل مؤرخ اللحظة أم صحافي الماضي؟

لقد كان هذا هو السؤال المحوري الذي انبنى عليه هذا المبحث الذي سنحاول أن نناقشه اليوم، وهو المبحث الثالث من الكتاب المذكور للدكتور فتحي ليسير. ويستهل هذا الأخير بعنوان طرحه في صيغة تساؤل: هل الصحافي مؤرخ اللحظة؟ مؤكِّدا أن تطور كل من التاريخ والصحافة كان بشكل منعزل عن الآخر منذ أكثر من نصف قرن وفي حالة من التجاهل المتبادل. ومع نهاية القرن الـ19 م تحول التاريخ إلى علم مستقل وقائم بذاته، بمعنى له حقل خاص به ومنهجية خاصة.

وفي هذه الأثناء، برز نوع من الإنتاج الصحافي ذي الصبغة التاريخية، والذي كان يتعاطاه خصيصا أولئك الصحافيون الذين يتم نعتهم بالكتاب الصحافيين الذين خاضوا في القضايا التاريخية الراهنة وألفوا فيها. والحقيقة أن آراء المؤرخين المحترفين في تلك الفترة انقسمت بين فريق واجه كتابات هؤلاء الصحافيين بالاستخفاف والتنقيص من شأنها، وهو الفريق الغالب، حيث كان على الصحافي أن يتلقى مجموعة من الشهادات القاسية والثقيلة التي تستخف بإنتاجه المهني كالقولة المشهورة التي تصف الصحافي بـ"سيزيف ما هو زائل" (Sisyphe de l’éphémère) بمعنى أنه يحمل نفسه عناء ومشقة ما هو آيل للنسيان، مهما بلغت كتاباته من الدقة والإتقان لأن مصيرها هو سلة المهملات. فهو يكتب للمؤقت والعابر وبالتالي فإنه يكتب للنسيان.

وفي المقابل، كان هناك بعض الشهادات التي تثمن من عمل الكتاب الصحافيين وتمنح إنتاجاتهم قيمة معتبرة في مجال الكتابة التاريخية من قبيل القولة المشهورة لألبير كامي: "الصحافي مؤرخ اللحظة" التي تبناها بعد ذلك المفكر عبد الله العروي.

وعلى الرغم من تعدد الآراء من خارج المجال الصحافي التي حاولت تقييم عمل الكتاب الصحافيين الذين تتسم إنتاجاتهم بالبعد التاريخي، فإنه كانت هناك أيضا آراء من داخل المجال الصحافي، وقد جاء في هذا المبحث شهادة الصحافي محمد حسين هيكل، الذي كغيره من الكتاب الصحافيين، لم ينسب لكتاباته الصفة التاريخية ولم يدَّع أبدا أنه مؤرخ بشكل من الأشكال؛ لكنه أكد أن ما يكتبه لا يعدو أن يكون سوى قراءة صحافية للتاريخ، باعتبار قراءة التاريخ هو حق ثابت بالنسبة إليه ولكل مهتم بالشؤون العامة. ويدافع عن الفكرة نفسها ويتبناها جان لاكوتير، الذي يعتبر أن التعدي على اختصاص المؤرخ أو صلاحياته لا يمكن أن يصدر عن صحافي يحترم نفسه، كما يعتبر أي خلط بين التاريخ والصحافة هو شرف لهذه الأخيرة وضرب من العار بالنسبة للتاريخ. وهذه فكرة قد تكون صادمة وتتمخض عنها إشكالية كبيرة: أين يمكن أن يتجلى هذا الشرف الذي يمنحه التاريخ للصحافة وأين يمكن أن نلمس العار الذي يلحق بالتاريخ في حالة الخلط بينهما؟

ساهم احتدام الصراع العالمي وتوتر الأوضاع السياسية على الصعيد الدولي في القرن الماضي في سطوع نجم الكتاب الصحافيين الذين كانوا أول من خاض في أحداث الحرب العالمية الثانية، الحروب الباردة، حروب التحرير، الصراع العربي الإسرائيلي وغيرها من الوقائع، التي كان لها عميق الأثر في رسم المعالم السياسية للعالم الحديث.. وبالتالي، فقد أحرز هؤلاء الكتاب الصحافيون نجاحا عظيما ولقي إنتاجهم رواجا واسعا. هذا النجاح استفز المؤرخين المحترفين وجعلهم يفكرون من جديد في المواقف والتصورات القديمة حول التأريخ للزمن الراهن، كما وجه انتباههم إلى جدوى الكتابة عمّا تمر به المجتمعات المعاصرة وما يدور في الحقل السياسي من تحولات عميقة وتداعياتها على المستوى الاجتماعي...

هذا بالإضافة إلى زيادة الطلب على التاريخ المبسط الذي ساهم في ولوج عدد من المؤرخين حقل الصحافة، واكتسب العديد منهم صفة المؤرخ الصحافي، من أمثال روني ريمون، فرنسوا فيري وجاك جوليار...

هذه العوامل ساهمت بشكل كبير في زعزعة وتغيير الرأي السائد والسلبي إزاء ما يسمى بتاريخ الهواة أو تاريخ الصحافيين، خصوصا وقد ظهرت فئة جادة من الصحافيين وصفهم جان لاكوتير بـ"المتلهفين على التاريخ" (les impatients de l’histoire) والذين يمكنهم أن يطلعوا بدور "كشافي التاريخ" حسب تعبيره les éclaireurs de l’histoire))، وهذا يقودنا إلى فرضية أخرى سيتم طرحها فيما بعد في هذا المبحث وهي: هل الصحافة هي فعلا مسودة التاريخ الأولى كما يقول تيموثي كارتون آش (Timothy Garton Ash)؟

في المحور الثاني، يحاول صاحب البحث أن يبين مجال التكامل بين كل من الصحافي والمؤرخ ويعرض لمجموعة من تأملات البعض ممن درسوا العلاقة بين التاريخ والصحافة، حيث يؤكد كريستوف بوميان أن الاختلاف بين ما يقوم به الصحافي الاستقصائي ومؤرخ الزمن الراهن لا يمكن أن يكون إلا في أسلوب تقديم النتائج، أما البحث فيتم بطرق مماثلة في الحالتين معا. وهو نفس ما يذهب إليه العروي حين يقول: "كلاهما -أي الصحافي والمؤرخ- يعتمد على مخبر، وكلاهما يؤول الخبر ليعطيه معنى، أي تجميع المادة، فحصها وغربلتها ثم تأويلها ومساءلتها". كما أن عمل كل منهما، سواء المتعلق بالعمل الميداني أو العمل التحريري، يطرح نفس الإشكالات والالتباسات الإبستمولوجية حول الموضوعية أو "حدود إدراك الواقع كما حدث"، بتعبير عبد الله العروي.

ويؤكد المؤرخ الصحافي جاك جوليان على فكرة التشابه بين عمل الصحافي وعمل المؤرخ، فهما يشتغلان على نفس آثار الحدث، والفرق هو أن الصحافي يدعوها وثائق والمؤرخ يدعوها أرشيف.

وعلى الرغم من وجود العديد من أوجه التشابه بين العمل المهني لكل من الصحفي والمؤرخ، فإن المقارنة تقتضي أيضا عدم إغفال أوجه الاختلاف بين المهنتين، والتي أَجمَلَتها هذه الدراسة في عنصرين أساسيين؛ العنصر الأول هو الزمن والعنصر الثاني هو الثخانة التاريخية (l’épaisseur historique).

المقصود هنا بالزمن هو المهلة المخولة لكل منهما، والمسافة التي يتخذها الصحافي والمؤرخ من الحدث الذي يكتب عنه. هذه المسافة التي "إذا ضاقت تحول المؤرخ إلى صحافي، وإذا عاد الصحافي إلى الأخبار بعد مدة وتأملها تحول إلى مؤرخ" حسب تعبير عبد الله العروي. لذلك، فإن الصحافي حسب برونو فرابا، وهو رئيس تحرير اليومية الفرنسية la Croix، يسبح في الفوري، هذا هو إيقاعه. وهذا الإيقاع يشكل محدوديته وامتيازه في الآن نفسه. ليس له وزن المؤرخ ووثائقه، ولكن لديه خفة اللحظة، لأن عليه أن يجيب على ما الجديد؟ لذلك فهو مُعرّض دوما للوقوع في الخطأ أو في التقريبية.

النقطة الثانية التي تميز بين عمل الصحافي والمؤرخ ترتبط كما تمت الإشارة بالثخانة التاريخية. أكيد أن السؤال هنا هو ماذا يعني هذا؟ وكيف ذلك؟ الإجابة عند جاك لوغوف، الذي اعتبر أن أغلب الذين عالجوا التاريخ من خارج الاختصاص -وهنا يدخل الصحافيون بالإضافة إلى كل الذين عالجوا التاريخ من بوابة العلوم الإنسانية الأخرى كالاقتصاد والسياسة- لا يهتمون سوى برغوة الأحداث، ولا يحاولون النبش في عمقها التاريخي، وهذا ناتج بطبيعة الحال عن نقص الثقافة التاريخية لديهم. ويقدم لوغوف مجموعة من النصائح للصحافيين الجيدين الذين يتعاطون مع التاريخ الفوري بجدية من أجل أن يرقوا بكتاباتهم إلى مستوى التأريخ، وتتلخص فيما يلي:

- قراءة الحاضر والحدث قراءة ذات عمق تاريخي كاف وسديد.

- التعاطي مع مصادر الحاضر والحدث بالروح النقدية للمؤرخ المحترف ومناقشة الحصيلة المقمشة بأدوات المؤرخ وأسلوبه.

-العمل على ترتيب الحوادث والتمييز بين الهامشي والأمر المعبر والمهم ... وعلى تنزيل الحدث في المدة البعيدة وضمن إشكالية تتيح اللقاء بين مؤرخي الأمس واليوم، وكذا مؤرخي الأمس البعيد والآني...

اللحظة نعود إلى السؤال الذي طرحناه سابقا بخصوص العلاقة القائمة بين الصحافة والتاريخ، فهل فعلا الصحافة هي المسودة الأولى للتاريخ؟

إذا ما اتفقنا مع قولة بول ريكور التي تفيد بأن التاريخ كتابة مستمرة لكتابات سابقة، فالجواب بالتأكيد سيكون نعم، بناء على وعينا بأن الصحافي ينتج مادة سيستعملها المؤرخون في المستقبل. اعتبر إيف لافوان أن العلاقة بين الاثنين هي علاقة عمودية، حيث إن الصحافي هو خادم مؤرخ المستقبل.. في الوقت الذي يحاول جون لاكوتير أن يرفع من قيمة الصحافي ويثمن عمله من خلال قوله بأن "الصحافة هي الشكل الأول والمتلعثم للتاريخ الفوري". وبالتالي، فإن من حق الصحافي أن يخطئ في نقله للأحداث؛ لأن هناك المؤرخ الذي لا بد أن يأتي بعده ليصحح هذا الخطأ لأنه ينقله إلى فسيفسائه الكبير. وهذا ما يذهب إليه الصحافي رياض نجيب الريس في كتابه: "قبل أن تبهت الألوان". فحسبه ليس من الضروري أن يكون الصحافيون هيرودوت أو هيرودوتس، (مؤرخ إغريقي لقب بأبي التاريخ نظرا لما كتبه في تسعة مجلدات عن بلاد اليونان)؛ إلا أن لقب المؤرخ هذا يطرح إشكالات كبيرة حول صحة نعته به والتي ليس هذا هو محل طرحها.

ويؤكد آشار كارتون، الذي يعرف نفسه بأنه صحافي يعشق التاريخ، أن الصحافة من خلال البحث عن الحدث وتوثيقه ثم محاولة تحليله ولو من خلال قراءة أولية متوترة وطازجة فإنها تقدم خدمة جليلة للتاريخ؛ فالصحافي في الحقيقة هو الذي يحمي بعض الوقائع التاريخية المعاصرة من الاختفاء والاندثار دون أن ينتبه أحد إلى ضياعها. فلولا حضوره في المكان والزمان المناسبين لكانت ستؤول ربما إلى الكتمان ومن ثم إلى النسيان.

كانت هذه مجموعة من عناصر التكامل والترابط التي تمكننا بشكل ما من تفسير العلاقة الجدلية القائمة بين المؤرخ والصحافي.

وعلى الرغم من أن الحدود ما بين عمل هذين الأخيرين هي من أكثر الحدود توترا وأقلها تحديدا وأكثرها لبسا، فإن التاريخ يبقى تاريخا والصحافة تبقى صحافة، حيث يكون من المستحيل الحديث عن شكل من أشكال التماهي، على اعتبار أن لكل قطاع نظامه وإقراراته الخاصة، إذ تعود للتاريخ الجامعي الكفاءة العلمية والاحتكام إلى المهنية. أما التاريخ غير الاحترافي، ويقصد به الإنتاج الصحافي الذي يتميز ببعد تاريخي، فله الرواج الإعلامي والشهرة والكثرة، وهذا هو رأي فرنسوا بيداريدا الذي ينتصر للمؤرخين المحترفين.

وفي المقابل، لا يتوانى الصحافيون المؤرخون في الرد على من يقزم تاريخ الصحافيين ويعتبر أنهم لا يصلحون البتة لكتابة التاريخ.. فالصحافي المؤرخ له أسلوب أكثر تشويقا وقابلية للفهم، كما أنه الأنجح في مهمة تثقيف الناس وتسليتهم في آن واحد.

ويخلص هذا المبحث بالتأكيد إلى أن المؤرخ هو الوحيد الذي يستطيع ضمان الحد الأدنى من الالتزام بالمعايير العلمية في كتابة تاريخ الراهن. ووحده أيضا يستطيع تجاوز رغوة الحدث والتوغل في أعماق الظواهر وملامسة جذورها، طبعا بفضل ثقافته التاريخية العميقة والواسعة. هذا يجعل من كتابة التاريخ الراهن إحدى المهام الموكلة إلى المؤرخ، فمسؤوليته العلمية تحتم عليه أن يخوض فيها ويدلي بدلوه في الآني، على الرغم من العراقيل التي قد تحد من نطاق البحث، وعلى الرغم من إشكالية المسافة مع الحوادث.

كخلاصة، يمكن أن نتفق على أن التاريخ يبقى تاريخا والصحافة تبقى صحافة، على الرغم من التقاطعات بين بحث كل منهما والذي قد نعتبره هو البؤرة الأولى لكل الجدلية التي تخلقها العلاقة بين التاريخ والصحافة، أو لنكون أكثر تحديدا بين كتابة تاريخ الراهن وبين الصحافة؛ حيث إن كل منهما يجمع المعطيات الآنية وهي ساخنة وطازجة ثم يحاول غربلتها وتصنيفها ثم تأتي مهمة التحليل والتأويل وإعطاء افتراضات بخصوص أبعاد الحدث. لذلك، فحدود مجال البحث بين القطاعين هي حدود يصعب فعلا ترسيمها وتحديدها بدقة. وهكذا يمكن أن نقول بأن كل الإدانة التي تتعرض لها الصحافة من طرف المتزمتين للتاريخ المختص هي فقط نتيجة الخلط بين الصحافة وبين تاريخ الزمن الراهن عوض الاعتقاد بالتكامل بين الخدمات التي يقدم كل منهما للمهتمين من الناس.

وفي الوقت الذي يحتاط المؤرخ من الكتابة في الظواهر الراهنة وينتظر المسافة المطلوبة ليستطيع الإحاطة بالحدث من جل أبعاده الممكنة، تكتسح السوق كتابات الصحافيين المهتمين بالتاريخ وتحقق نجاحا باهرا نتيجة تزايد الطلب على التاريخ للخفيف أو «fast histoire» الذي يمزج في الكثير من الأحيان بين التثقيف والتسلية، في مجتمع أصبح يتجه نحو السرعة في كل مناحي حياته.

 

ضحى أمقران