لم يطرح التناوب – التوافقي منفصلا عن سياق الظروف العالمية والجهوية والداخلية التي كان يعيشها المغرب، كما أن ولادته لم تكن دفعة واحدة، بل كانت ولادة قيصرية سبقتها مراحل من المخاض العسير، والمشاورات والمفاوضات المعلنة وغير المعلنة.

ظروف التناوب - التوافقي:

في البدء نشير إلى أن مشروع التناوب – التوافقي كان "مشروعا ملكيا اضطراريا"؛ فهو اختيار ملكي إرادي؛ حيث المبادرة جاءت من طرف الملك الراحل الحسن الثاني، وهو اضطراري؛ لأن الظروف فرضت ضرورة تكيف النظام مع المستجدات.

فعلى المستوى الخارجي ساهم تفكك جدار برلين في تفكك المنظومة الشرقية وانهيار الاتحاد السوفياتي في ظهور نظام دولي جديد أحادي القطب تهيمن عليه الولايات المتحدة الأمريكية، بالإضافة إلى توصيات ومقررات هيئة الأمم المتحدة، والمؤسسات المانحة، كصندوق النقد الدولي، وما أصبح يوصي به البرلمان الأوربي، والسوق الأوروبية المشتركة حول التجارة الدولية، والتقارير السنوية للكونغرس الأمريكي حول حقوق الإنسان بدول العالم الثالث، وما أصبحت تطالب به الشركات المتعددة الجنسيات من ضمانات سياسة وقانونية وحقوقية كشروط للاستثمار بهذه البلدان، وما أخذه المغرب على عاتقة من تعهدات في مؤتمر "الكات" بمراكش ومؤتمر الشرق الأوسط بالدار البيضاء.

أما على المستوى الجهوي فشكل تأزم العلاقات بين الحكومتين المغربية والجزائرية؛ مؤشرا سلبيا بالنسبة لما ينتظر من إنهاء مشكل الصحراء خلال الفصلين الأولين من سنة 1995؛ وهو ما أدى بالنظام إلى ضرورة الالتفات إلى أحزاب الحركة الوطنية وذلك لمواجهة أية أزمة، وهي المواجهة التي لن يكتفي فيها النظام بمجرد حكومة تقنوقراطية.

بيد أن المتغيرات على المستوى الداخلي فنجملها في ما يلي:

افتضاح ديمقراطية الواجهة، والمؤسسات المزيفة

تفاقم المشاكل الاجتماعية: من صحة وتعليم وشغل، وضمان اجتماعي.

تفشي ظاهرة الرشوة واستغلال النفوذ والتهريب والمخدرات.

مطالبة المعارضة بتغيير دستور 1992.

تنامي وتصاعد التيار "الإسلاموي الشعبوي"

تفاقم الأزمة الناجمة عن تداعيات سياسة التقويم الهيكلي (1983-1990).

تداعيات نشر تقرير البنك الدولي لسنة 1995 - السكتة القلبية.

التفاوض حول التناوب:

ما كان للملك أم يدخل في مفاوضات مع المعارضة البرلمانية حول مشروع التناوب إلا بعد أن هيأ له الأرضية الدستورية، وخلق له الجو السياسي المناسب؛ فقد سبق ذلك الإعلان عن تعديل دستور 1972 بإصدار دستور 1992؛ الذي يعتبر بحق مفتاح التناوب؛ ففيه تمت الاستجابة لمطالب المعارضة البرلمانية والمجتمع المدني؛ كضرورة النص دستوريا على الالتزام بحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها دوليا، كما تم تعديل الفصل 24 المتعلق بتعيين الحكومة وإقالتها من طرف الوزير الأول الذي يعينه الملك، كما أصبح الإعلان عن حالة الاستثناء غير مؤد إلى الحل الأوتوماتيكي للبرلمان.

وإذا كانت المعارضة اعتبرت استجابة النظام لمطالبها نجاحا فإن الملك اعتبر ذلك مجرد احتياطات احترازية لتقوية النظام والتي ستتعزز مع إضافة الغرفة الثانية للبرلمان (مجلس المستشارين) في دستور 1996؛ حيث أصبح البرلمان المغربي يتكون من مجلس النواب ومجلس المستشارين في إطار "الازدواجية البرلمانية"؛ وهو ما سيؤدي إلى تقييد العمل الحكومي؛ حيث تؤدي هذه الآلية البرلمانية مثلا إلى بطء في العمل التشريعي؛ فأي مشروع – قانون أو اقتراح – قانون لا بد له من أن يراوح ما بين مجلس النواب ومجلس المستشارين، كما يقيد عمل الحكومة بفتح إمكانية تقديم ملتمس رقابة من طرف المجلسين معا وعلى قدم المساواة، وتضاف إلى ذلك المسؤولية المزدوجة للحكومة أمام الملك والبرلمان؛ لهذا رأينا الوزير الأول اليوسفي عبد الرحمان كان ملزما بقراءة التصريح الحكومي أمام مجلس النواب، ليأتي في اليوم الموالي ليعيد قراءته أمام مجلس المستشارين.

جولات التفاوض حول التناوب:

بتاريخ 03 أكتوبر 1993 افتتح الملك الدورة الأولى من السنة التشريعية للولاية النيابية 1993-1999؛ بهذه الحكمة اليونانية القائلة: "الحياة قصيرة، العلم لا ساحل له، الفرصة سريعة... العقلنة صعبة المنال، التجريبية تصاحبها المخاطرة"؛ وليفسر هذه الحكمة، بأنه لا مجال لتضييع الوقت بل "يجب أن نغتنم كل فرصة تتاح لنا لنسير إلى الأمام".

ولكن أمام تصلب موقف الكتلة باستثناء حزب التقدم والاشتراكية الذي فضل التشاور على انفراد مع الملك، سيحمل الملك فشل الجولة الأولى لأحزاب الكتلة متسائلا: "لأنهم عطلوا المسيرة الجديدة... ماذا يريدون أكثر من هذا للقيام بواجبهم".

وبعد أن شرح الملك كيف أنه لا يمكنه أن يمنحهم وزارات السيادة، سينصب حكومة تيقنوقراطية بتاريخ 11 نونبر 1993 برئاسة الوزير الأول السيد محمد كريم العمراني، في انتظار نضج الشروط المساعدة بسلوك اختيار التناوب مع إبقاء باب الحوار مفتوحا.

إن فشل الجولة الأولى حول التناوب لم يدفع الملك إلى اليأس من المشروع الذي خطط له، بل إن كل الاحتمالات كانت واردة ومتوقعة، وكل الفرضيات كانت مطروحة، وعليه استقبل مستشار الملك السيد أحمد رضا كديرة بتاريخ 05 يناير 1995 بعض ممثلي الكتلة بالقصر الملكي حيث ضم الوفد:

- محمد اليازغي: حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية.

- امحمد بوستة: حزب الاستقلال.

- محمد بن سعيد آيت إيدر: منظمة العمل الديمقراطي الشعبي.

وتدارس معهم المسائل المطروحة للنقاش بين الجانين وتضمن ذلك ما يلي: من حيث المبدأ قبول الملك بمراجعة دستورية، وفكرة تأسيس لجنة مستقلة للسهر على عملية الانتخابات، وكذلك ضرورة إصلاح جذري في عمل الحكومة.

أما ممثلو المعارضة الثلاثية فاقتنعوا بصفة الوزارة السيادية للداخلية ولكن دون إدريس البصري مقترحين لهذا المنصب الجنرال القادري؛ وعبر بوستة عن ذلك قائلا: "لا أستطيع الجلوس مع البصري في نفس الطاولة"؛ بيد أن السيد إدريس السلاوي مستشار الملك رد عليهم متسائلا: "على ماذا تحتجون في الواقع على الشخص أو المؤسسة؟".

ليجيب بوستة: "الاثنين معا".

وعلى إثر ذلك رفع الملك قضية المساس بالوزارة والوزير في الداخلية إلى مرتبة المساس بالمؤسسات المقدسة بالبلاد. وهكذا عبرت الملكية عن الباب المسدود الذي وصلت إليه المفاوضات حول التناوب في جولتها الثانية؛ وذلك من خلال بلاغ صادر عن الديوان الملكي بتاريخ 11 يناير 1995.

لكن أحزاب الكتلة ردت بعد ذلك في بيان توضيحي أكدت فيه أن "للمؤسسات دستورا وشعبا يحميها...".

طبائع التناوب المغربي:

ليعطي الملك الدليل القاطع على أن التناوب الذي كان "مشروعا" وأصبح "إمكانية " فإنه سنة 1995 غدا "ضرورة" لتتحمل المعارضة تسيير الشأن الحكومي وإدارة الأزمة، سيتوجه بطلب إلى مؤسسة محايدة لتشخيص الوضع المغربي اقتصاديا وسياسية واجتماعيا، فكان التقرير كارثيا بالأرقام وبالمراتب التي يحتلها أحيانا المغرب دون دول إفريقيا جنوب الصحراء؛ ومعلنا عن قرب موعد "السكتة القلبية.

إعمال التراضي لخلق التوافق:

لقد كان لتقرير البنك الدولي 1995 مفعول القنبلة التي فجرها الملك في وجه المعارضة، بالرغم من اعتبار بعض أعضائها أن تلك المشاكل الواردة في التقرير كانت معروفة لديهم ولم تفاجئهم.

ولكن قراءة الملك للتقرير بل للتقارير القطاعية يقول إنه وجد "فيها فصاحة موجعة وأرقاما في الحقيقة مؤلمة ومقارنات تجعل كل ذي ضمير لا ينام".

ويرى أن "هذه المسؤولية لا يمكن أن تنحصر في رجل واحد بل ولا يمكن أن تلقى على عاتق حكومة كيفما كانت، بل لا يمكن لأي حزب من الأحزاب السياسية أو الهيئات النقابية وحدها إيجاد حلول وطريقة للوصول إلى الأهداف".

لقد اعتبر الملك الراحل أن التراضي لم يكن فقط مجرد "مفهوم" بدون موضوع أو هدف، بل "التراضي هو الاتفاق على هدف، على هدف سام، على هدف مصيري للبلاد. الاتفاق على اختيار ضروري وتاريخي...هذا هو التراضي... أما كيفية الوصول إليه... والمنهجية التي يجب أن تستعمل لإدراكه، فهذا يجب أن يكون محل الحوار والنقاش والبحث". فالملك هنا دق ناقوس الخطر؛ داعيا زعماء أحزاب الحركة الوطنية إلى الدخول في تجربة التناوب التوافقي.

الولادة القيصرية للتناوب – التوافقي:

لم تمض عن دعوة الملك إلا ستة أشهر حتى أعلن في خطاب العرش، بتاريخ 03 مارس 1998 أنه يمكن لجميع القوى الحية وبدون استثناء "أن تتنافس بكل أهلية وجدارة في مجال استحقاق التناوب السياسي.... هو اليوم واقع ملموس...

ولكن السؤال المطروح هو ماذا حدث في "مفاوضات الكواليس" حتى يتم الإعلان عن كون التناوب أصبح واقعا ولو قبل الإعلان عن الحكومة المرتقبة؟

إن دراسة متأنية في نتائج اقتراح 14 نونبر 1997 لانتخاب أعضاء مجلس النواب تعطينا دلالة صارخة على كون النتائج كان متفق عليها مسبقا في إطار "كوطا"، تجعل الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية على رأس القائمة بـ 57 نائبا، متبوعا بالاتحاد الدستوري بـ 50 صوتا، ولهذا الترتيب دلالته الرمزية، فالسلطة سوت بين حزب وطني وحزب إداري لا فرق بينهما إلا 7 أصوات، أما حزب الاستقلال فتقهقر إلى المرتبة الخامسة ب 32 صوتا كضريبة عن موقفه المتصلب من وزارة ووزير الداخلية (إدريس البصري).

ولكن تصاعد الأصوات داخل حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وبالخصوص تيار أصبح يعرف تحت "تيار عدم المشاركة"؛ دفع الكاتب العام عبد الرحمن اليوسفي إلى اعتبار "الظروف المثيرة والمقلقة التي يعيشها رأينا العام... تدفع العديد من المناضلين إلى الاستنجاد بفكر عبد الرحيم بوعبيد، باجتهاد عبد الرحيم بوعبيد، بوصية عبد الرحيم بوعبيد؛ وذلك ليستنير بكل ذلك كمرجعية في التحليل، كأسلوب في العمل، كنموذج في الشجاعة السياسية وكمدرسة في الأخلاق والنزاهة والسلوك".

وليعزز نائب الكاتب العام مواقف الوزير الأول وبالتالي موقف الحزب من المشاركة قائلا بأنه "يستحيل على حزب كحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية أن يبقى متفرجا.

عبد الرحمان شحشي