لم ترد كلمة "غربة" أو "اغتراب" بلفظها في القرآن الكريم وإن كنا نستشف معناها من مسألة هبوط آدم من الجنة. وفي المقابل، نجد للغربة معنى إسلاميا مخصوصا في الأحاديث النبوية، لعل أشهرها ما روي عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء)، غير أن هناك روايات/تنويعات على نص هذا الحديث يبدو لنا إيرادها مهما حتى نتبين المعاني المتصلة بالغربة:

1-الرواية الأولى: "بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء" قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: "الذين يصلحون ما أفسد الناس".

2-الرواية الثانية: "بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء" قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: "الذين يزيدون إذا نقص الناس".

في الرواية الأولى نجد الصلاح في مقابل الفساد، وفي الرواية الثانية نجد الزيادة في مقابل النقصان؛ وعليه تكون الغربة في الصلاح والزيادة. ويفسر ابن القيم الجوزية معنى الزيادة في هذا الحديث فيقول: "فمعناه الذين يزيدون خيرا وإيمانا وتقى إذا نقص الناس من ذلك".

انطلاقا من هذه المعاني، فالغربة هي دائما حال المسلم التقي الورع؛ إذ كلما حاد الناس عن طريق التقوى وتمسك به هو جاز لنا أن نعده غريبا، وتلك كانت حال المسلمين؛ إذ كانوا قلة في أول الدعوة مستضعفين مشردين أخرجوا من ديارهم وهاجروا بلادهم، وكلما كان الإسلام بقيمه وفضائله ينتشر ويسود كانت الغربة تنحسر طردا ولكنها سرعان ما كانت تعود؛ إذ لم يكد يمضي قرن من الزمان على الإسلام حتى وصف المسلمين الأتقياء بالغربة، ومنهم الحسن البصري (ت110هـ) وسفيان الثوري (ت161هـ) واحمد بن عاصم الأنطاكي (ت215هـ) الذي كان يقول: "إني أدركت من الأزمنة زمانا عاد فيه الإسلام غريبا كما بدأ وعاد فيه وصف الحق فيه غريبا كما بدأ، أن ترغب فيه إلى عابد وجدته جاهلا في عبادته مخدوعا صريعا غدره إبليس، قد صعد به إلى أعلى درجة العبادة وهو جاهل بأدناه فكيف له بأدناه".

هكذا فالغربة ليست سوى الزهد والإعراض عن متع الدنيا ولذاتها عملا بقوله تعالى: "اعلَمُوا أَنَّمَا ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌۢ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي ٱلْأَمْوَٰلِ وَٱلْأَوْلَٰدِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ ٱلْكُفَّارَ نَبَاتُهُۥ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَىٰهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَٰمًا ۖ وَفِى ٱلآخرة عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَٰنٌ ۚ وَمَا ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَآ إِلَّا مَتَٰعُ ٱلْغُرُورِ" (سورة الحديد: 20).

والملاحظ أن من يعمل بهذا التوجيه الإلهي هم أناس قلة لم يجعلوا الدنيا أكبر همهم ولا مبلغ علمهم، صفاتهم مفارقة لصفات السواد الأعظم من الناس لذلك فهم غرباء. عن معاذ بن جبل عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (ألا أخبركم عن ملوك أهل الجنة؟ قالوا بلى يا رسول الله قال: كل ضعيف أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره).

إن تراتبية العالم المؤمن المسلم توازيها تراتبية مماثلة في درجات الاغتراب؛ ففي تفسير الآية التالية: "يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ "(المجادلة: 11)، يرى ابن عباس أن للعالم درجة فوق المؤمن، وهذا الأخير درجته أعلى من المسلم، وعليه فهذه الدرجات تقابلها درجات ثلاث من الاغتراب والغربة:

- الدرجة الأولى: اغتراب المسلم بين الناس أجمعين.

- الدرجة الثانية: اغتراب المؤمن بين المسلمين.

- الدرجة الثالثة: اغتراب العالم بين المؤمنين.

وتأسيسا على ذلك، يمكن أن نفهم التعريف الذي يعطيه الهروي الأنصاري للاغتراب بأنه "أمر يشار به إلى الانفراد على الأكفاء"، وهو لا يخرج عن المعنى الذي سطره الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله لعمر رضي الله عنه: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل". وفي الصدد نفسه، يقول ابن القيم الجوزية:

وأي اغتراب فوق غربتنا الـــتي ** لها أضحت الأعداء فينا تحكم

وقد زعموا أن الغريب إذا نأى ** وشطت به أوطانه ليس ينعــــم

فمن أجل ذا لا ينعم العبد ساعة ** من العمر إلا بعدما يتـــــــــألم

هذه الأبيات تسلمنا للحديث عن نموذج الصوفي المغترب الذي لا يخرج عن السياق الديني الذي تغلغلت فيه الغربة، بل لعله المجال الأرقى لهذه الغربة. لننصت لابن عربي، هذا المتصوف الكبير الذي بلور من خلال كتاباته مفهوما مخصوصا للغربة والاغتراب، يقول بدءا في فتوحاته المكية مصورا سفر الإنسان الاغترابي: "إن أول غربة اغتربناها وجودا حسيا عن وطننا، غربتنا عن وطن القبضة عند الإشهاد بالربوبية لله علينا، ثم عمرنا بطون الأمهات فكانت الأرحام وطننا، فاغتربنا عنها بالولادة فكانت الدنيا وطننا واتخذنا فيها أوطانا فاغتربنا عنها بحالة تسمى سفرا أو سياحة إلى أن اغتربنا عنها بالكلية إلى موطن يسمى البرزخ فعمرنا مدة الموت فكان وطننا ثم اغتربنا عنه بالبعث إلى أرض الساهرة، فمنا من جعلها وطنا وأعني القيامة ومنا من لم يجعله وطنا فإنه ظرف زمني، والإنسان في تلك الأرض كالماشي في سفره بين المنزلتين ويتخذ بعد ذلك أحد الموطنين إما الجنة وإما النار فلا يخرج بعد ذلك ولا يغترب، وهذه آخر الأوطان التي ينزلها الإنسان ليس بعدها وطن مع البقاء الأبدي"، (الفتوحات المكية).

ويميز ابن عربي، حسب سعاد الحكيم في "المعجم الصوفي"، بين ثلاثة معان للغربة؛ أولها: مفارقة الوطن في طلب المقصود، وعنها يقول ابن عربي: "أما غربتهم عن الأوطان بمفارقتهم إياها فهو لما عندهم من الركون إلى المألوفات فيحجبهم ذلك عن مقصودهم الذي طلبوه بالتوبة وأعطتهم اليقظة وهم غير عارفين بوجه الحق في الأشياء فيتخيلون مقصودهم لم يحصل إلا بمفارقة الوطن وأن الحق خارج عن أوطانهم، كما فعل أبو يزيد البسطامي كما كان في هذا المقام، خرج من بسطام في طلب الحق فوقع به رجل من رجال الله في طريقه فقال: يا أبا يزيد ما أخرجك عن وطنك؟ قال: طلب الحق قال له الرجل: إن الذي تطلبه قد تركته ببسطام فتنبه أبو زيد ورجع إلى بسطام ولزم الخدمة حتى فتح له فكان منه ما كان".

وثانيها غربة العارفين، ويعرفها ابن عربي بقوله: "وأما غربة العارفين عن أوطانهم فهي مفارقتهم لأماكنهم فإن الممكن وطنه الإمكان فيكشف له أنه الحق والحق ليس وطنه الإمكان، فيفارق الممكن وطن إمكانه لهذا الشهود، ولما كان الممكن في وطنه الذي هو مع العدم مع ثبوت عينه سمع قول الحق له كن فسارع إلى الوجود فكان لا يرى موجده فاغترب عن وطنه الذي هو العدم رغبة في شهود من قال له: كن، فلما فتح عينه أشهده الحق أشكاله من المحدثات ولم يشهد الحق الذي سارع إلى الوجود من أجله وفي هذه الحال قلت:

إذا ما بدا الكون الغريب لناظري**حننت إلى الأوطان حن الركائب".

أما المعنى الثالث للغربة فهو الذي تنتفي فيه هذه الغربة، وتلك حال العارفين المكلمين الذين "ليس عندهم غربة أصلا وإنهم أعيان ثابتة في أماكنهم لم يبرحوا عن وطنهم، ولما كان الحق مرآة لهم ظهرت صورهم فيه ظهور الصور في المرآة [...] هم أهل شهود في وجود [...] ولو قامت غربة بهم لنقلت الحقائق وعاد الواجب ممكنا والممكن واجبا والمحال ممكنا، والأمر ليس كذلك والغربة عند العلماء بالحقائق في هذا المقام غير موجودة ولا واقعة".

"الفتوحات المكية"

من بين الدارسين الذين اهتموا بظاهرة الغربة/الاغتراب في كتابات المتصوفة الإسلاميين، نجد محمود رجب، الذي استقصى في كتابه: "الاغتراب: سيرة مصطلح" هذه الظاهرة لديهم، خاصة لدى السهروردي وأبي حيان التوحيدي، ليخلص إلى أن معنى الغربة الجسدية/الحسية هو الغالب لديهما، أما المعنى النفسي والاجتماعي فيستخلص من هذه الغربة الجسدية، وهو ما حاول التدليل عليه من خلال الاقتباس الذي أجراه عن أبي حيان التوحيدي في إشاراته الإلهية حيث يقول:

"فأين أنت من غريب قد طالت غربته في وطنه […] الغريب من نطق وصفه بالمحنة بعد المحنة […] إن حضر كان غائبا، وإن غاب كان حاضرا […] وأغرب الغرباء من صار غريبا في وطنه وأبعد البعداء من كان غريبا في محل قربه […] يا رحمتا للغريب! طال سفره من غير قدوم [...] الغريب من إذا أقبل لم يوسع له وإذا أعرض لم يسأل عنه [...]".

وفي تعقيبه على هذا الاقتباس، يقول محمود رجب إن الغريب هنا هو الإنسان الممتحن (من المحنة) يعيش بشعور الاقتلاع، والغريب الحق أو من أطلق عليه أبو حيان "أغرب الغرباء" هو ذاك الذي يكون غريبا وهو في وطنه وبين ذويه.

 

علي كرزازي