إن مفهوم التنمية الحضرية المستدامة في وقتنا الحاضر، بحسب الباحث في البيئة تيم أوريوردان Tim O riordan، يتم التأطير له وفق أربعة براديغمات محورية بغاية الوصول لتحقيق جودة الحياة، وتحقيق تصالح بين عالمين: الأول طبيعي من صنع الخالق، والثاني مدني من صنع الإنسان. يعقب أوريوردان، ومعه باحثون آخرون، بالقول: "منذ سنة 1987 والاجتماعات متلاحقة بين العلماء والدبلوماسيين محاولة منهم لتعريف مفهوم التنمية المستدامة ووضع المرجعيات الكفيلة بتوجيه عمل المتدخلين في حقل التنمية والتهيئة الترابية من دون تحقيق نتائج". لكن مع الأزمات البيئية وتوالي المخاطر، تصبح المرجعية ضرورة حتى لا تغرق سفينة البشرية وطاقمها مشغول بالبحث عن الكنوز البحرية الدفينة.

1. البحث عن المرجعية في ظل الأزمة

أول براديغم من بين البراديغمات الأربعة نجد المد العمراني غير المسبوق الذي يشهده العالم، والذي يستوجب من مسيري المدن تحمل المسؤولية كاملة، خصوصاً بعد تراجع الدول والحكومات ورفع يدها عن تحمل أعباء الحواضر. ثانياً التنمية المستدامة كإطار عمل مرجعي عليه أن يُقيم التوازن بين ما هو اقتصادي، واجتماعي، وبيئي، وثقافي. ثالثا حكامة جيدة منبثقة من المشاركة الفعالة لكل الأطراف (القطاع العمومي، القطاع الخاص، والمجتمع المدني) عند الإعداد والتدبير، مع مراعاة الشفافية والفعالية، واحترام المساطر والقوانين. ورابعاً براديغم العولمة الذي من شأنه أن يسمح بنقل الأفكار والتكنولوجيا بين الأمم والشعوب، وبتشبيك العلاقات الاقتصادية. فهذا التقعيد تحكمتْ فيه إديولوجيات يمكن تلخيصها في تيارين اثنين:

الأول تقني مركزي Techno-centriste يهيمن عليه الحداثيون، الليبراليون الجدد، الواثقون في المعارف العلمية والتكنولوجية، ويرجحون التدخل مع الأخذ بعين الاعتبار القدرة على تدبير المخاطر البيئية في إطار إنجاز المشاريع الكبيرة. يتفرع عن هذا التيار الحداثي والتقدمي من هم مع النمو الذي لا محيد عنه حتى وإن تعلق الأمر بأداء ضريبة التلوث، مطالبين المجتمع الدولي بالثقة في التكنولوجيا Get dirty, Get rich, Get Clean . والفرع الثاني داخل التيار التقني المركزي نفسه، من المعارضين للعولمة Altermondialistes، ويناضلون من أجل تحديد النمو، ويرجحون الحل على المستوى المحلي؛ التدخل المركزي لا يصح في نظرهم إلا في الأمور التي لا قدرة للفاعل المحلي عليهاSubsidiarité .

التيار الثاني يقوده المناصرون للبيئة Eco-centriste، ويتفرع عن هم التيار التقدمي من المتآزرين مع النظام الاجتماعي الديمقراطي، وهم مساندون بشكل أقوى للتنمية المستدامة مع وجوب التحلي بالأخلاق. الفرع الثاني داخل التيار الإيكولوجي نفسه هم من النشطاء الخضر، يناضلون من أجل الاكتفاء الذاتي من دون تبذير، وملتزمون بتحقيق المدينة المثالية، أي المدينة-الحديقة، وشعارهم: "العظمة ليست في الحجم، لكن في النوايا"، أو كما نقول بالفرنسية:

"La grandeur n est pas dans la dimension, mais dans l intention"

من هنا تتموقع المدينة بين خطاب "الواقعية" لليبراليين الجدد، ونضال الخضر "vert foncé" كما يحلو لأوريوردان أن ينعتهم، ذوي الطابع المثالي والأخلاقي الباحثين في الأفق عن المدينة السعيدة. فهل مفهوم التنمية الحضرية المستدامة هو إحياء للمدينة الأفلاطونية بطريقة معاصرة؟

2. المدينة السعيدة كتصور مثالي

إذا كان دور المدينة، من الناحية النظرية، هو السعي للرفع من سمو الإنسان بغاية تحقيق سعادته عن طريق ممارسة الفضائل بحسب الفارابي، فالمدينة السعيدة لا تؤسس، إلا على النظام، والعدل، والمساواة، وتخضع لمنطقين اثنين لا ثالث لهما؛ هما العقل والحكمة، بالرجوع إلى كتابات أفلاطون. إذاً فالمدينة الفاضلة بحسب حكماء اليونان القدامى ما هي إلا انتصار على الجهل، وعلى الفساد بالتغلب على قوة الغضب ومركزها القلب، والانتصار على قوة الشهوة ومركزها البطن.

فالمدينة في غايتها هي توفير الشروط الصحية المساعدة على بناء الإنسان ليستكمل إنسانيته غير المكتملة، ونقله من وضعية دونية شهوانية إلى وضعية أسمى، أي إلى مقامِ ما ينبغي أن يكون عليه الإنسان ككيان، وهو العائد تواً من غابة الذئاب. فالغاية من المدينة هي السعي للرقي بالمرور من الحالة البهيمية إلى حالة حيوانية رفيعة تبتعد عن وضعية الحيوان، لترتقي إلى وضع متقدم وهو "الحيوان الناطق"، في ظل شروط تسمح له بالتعبير، بالكلام، وبإبداء الرأي في شؤون أحواله، باعتبار أن الإنسان "حيوان سياسي"Animal politique، له حق المشاركة في تدبير شؤون المدينة.

فالوضعية السليمة للإنسان بـ"المدينة السعيدة" هي تجنب السقوط في الشهوة المفرطة، وفي مخالب الظلم. من أجل هذه الغاية يرتبط دور الساهرين على تدبير المدن، من حيث هي أدوار منوطة بالحكماء شهداء الحق وليس الزور، كما يقول الفارابي في مؤلفه المعروف "آراء أهل المدينة الفاضلة"، بمدى قدرتهم على استعمال الحكمة لمصلحة الآخرين، وذلك برفع الذوق العام إلى مقام أعلى، بموجبه يكتشف قاطن المدينة المعنى الحقيقي من الحكمة. الذوق على حد تعبير الفيلسوف كانط ما هو إلا ملكة لإصدار الحكم، بمعنى التعبير عن الرأي "Le goût est la faculté de juger". وسياسياً فالفارابي لخص الأمر، وفق قول الدكتور التونسي سالم العيادي: "في مفهوم غاية في الأهمية وهو التجوهر". وعليه فالمدينة مطالبة بخلق جو يسمح لساكنتها باستكمال بناء الذات. مما يعني أن "التجوهر" يستدعي الارتواء من نموذج مثالي أخلاقي "modèle idéal"، كأفق "ما ينبغي أن يكون عليه السكان في المدن السعيدة".

إن الفعل الحقيقي لا يصح إلا بالاستناد إلى المرجع، فالعلم عند مشيل فوكو Michel Foucault هو "كلمات" و"أشياء"، غير أن هذا العلم لا يكتمل من جهة إلا بتفعيل الأفكار وتطبيقها، ما عبرت عنه هانه أرند Hannah Arend بالجمع بين الفكرة الفلسفية والفعل السياسي، أي إن "الإنسان يستكمل إنسانيته بفعله هو"؛ فهل يا ترى كل الأفكار التي روج لها بعض الفلاسفة صالحة للتطبيق؟ وكيف لها أن تخلق السعادة عوض المعاناة في ظل تحالف الجهل مع الفساد؟

وجب القول إن هذا التحالف القوي يقوم على تبادل المصالح الاقتصادية عن طريق استراتيجيات الاستثمار المشترك، التعليم بأرقى الجامعات، وينتهي بعلاقات الدم بارتباط الفروع عن طريق الزواج، ثم الإنجاب لقطع الطريق عن كل مستفيد من الإرث خارج دائرة الأطراف الرابحة، حسب ما أكدته الدراسات السوسيولوجية (بورديو، Bourdieu).

إن المدينة الفاضلة ظلت حُلماً بعيد المنال، عجزت المجتمعات عن تكرسيه رغم البناء النظري الهام الذي قام به ثلة من المفكرين، لأن المشروع، على الرغم من جاذبيته، بقي ايتوبيك utopique، لأنه ينفي التمليك والحيازة عند أفلاطون، وفي منظور الفارابي يشترط وجود مُسير حكيم مُتبصر، ووجود ساكنة بمثابة الجسد التام السليم الخالي من الأمراض. حضرتْ الأفكار واستحال تطبيقها على الأرض ما دامت اليوتوبيا تعني اصطلاحاً فيما تعنيه، غياب المكان non lieu، nulle part. إلا أن تعدد المحاولات النظرية دلت على استمرار الإنسان في البحث عن السُبل المؤدية لتحقيق السعادة فوق الأرض، في مكان ما، ولو على جزيرة منسية، وكما يقول ابن خلدون "إنما البشر، على تنافرهم، محتاجون إلى الاجتماع والتعاون".

وأعاد المفكر طومس هوبز Thomas Hobbes في القرن السادس عشر الميلادي موضوع المدينة المثالية للساحة الأوروبية، كموقف سياسي يعبر عن الهروب من الظلم، ومن الاستبداد بواسطة الحلم، ليتحول طومس هوبز إلى قديس يحكي ما شاهده في جزيرة خيالية ينعم سكانها بالسعادة، والمساواة، والعدل، والاكتفاء الذاتي. يقول هوبز إن بيوتهم مفتوحة من دون حُراس، يمثلها وكأنها جنة خضراء فوق الأرض. إلا أن المُتخصص في التعمير Ebenezer Howard (1850-1928) سيتمكن من اقتراح مشروع مثالي من نوع جديد أطلق عليه "المدينة الخضراء"، دونه في مؤلفه تحت عنوان "المدن-الحدائق للغد"، كحل لتنظيم المجتمع والمجال يساعد على إخراج الحواضر الإنجليزية الصناعية وقتئذِ من الأزمة الخانقة التي عاشتها مع نهاية القرن التاسع عشر الميلادي جراء هجرات سكان البوادي.

يتلخص مشروعه في تقليص كثافة السكان التي تؤدي إلى ارتفاع الجريمة، والتلوث، وتساعد على انتشار الأمراض المعدية، وذلك عن طريق خلق مدن كوكبية صغيرة الحجم تفصلها أحزمة خضراء معتبرة، ومحاطة بأراض فلاحية لتزويد السكان بالخضروات والفواكه الضرورية، وترتبط بالمركز عن طريق شبكة طرقية داعمة. مجمل ما جاء به هوارد يشبه إلى حد ما المدينة الأفلاطونية، خاصة وسبب الفقر هو وجود الملكية الفردية للأراضي. فبموجب هذا الإصلاح الذي تقدم به هوارد يصبح العقار في ملك الجماعة، كحل للحد من جشع المضاربين العقاريين المسؤولين في نظره على فساد المدينة. سيتبنى المهندس ريموند Raymond Unwin في بداية القرن العشرين تصورات المفكر هوارد، وسيقوم بتطبيق مضامين أفكاره بمدن شمال العاصمة لندن.

أفكار الحالمين حول المدينة تنتهي بإيجاد طريقها للتطبيق مهما طال الزمان، مهما كانت نسب هذا التنفيذ، لأن حجتهم للإقناع تزكيها توالي الشدائد والأزمات. المفسدون يتصيدون الفرص وسط برك الأمراض، والتناقضات، وغايتهم تراكم الثروة بتدمير الإنسان والطبيعة، وتحويل السواني الخضراء المحيطة بالمدن إلى صناديق إسمنتية. الحواضر في مجتمعاتنا كانت امتدادا للحديقة وللبستان، في تداخل يجعل الانتقال بين المجالين سلساً، ومياه المنبع تسقي الجنان المحيطة بالمدن وتروي البيوت المفتوحة على ضوء السماء بشكل دائم. بصريح العبارة تعمقت مشاكل المدن بانتقال الأرض من قيمة الاستعمال إلى التداول في السوق بشكل مبالغ فيه بحسب قول عالم الاجتماع هنري لوفيفر Henri Lefebvre، وهكذا كُتب للجميع أن يعرف المعنى والمغزى من وجود درب تحت اسم درب "الميترو"، كما دون ذلك الجغرافي المتمرس المغربي محمد الناصري.

3. ميلاد خطاب التنمية الحضرية المستدامة

نُعتت تصورات الحالمين بطابع المثالية، ووُصفت بكونها بعيدة عن الواقعية، لكن مع توالي الأزمات والشَدائد سيضطر المتدخل في تخطيط الحواضر لاقتباس، باحتشام شديد، جزء من أفكارهم، كما وقع في السنوات الأخيرة مع المدن الكوكبية، ومع إحداث الحزام الأخضر، أو تكوين رصيد عقاري في ملكية الدولة حول مدارات بعض التجمعات الكبرى، بموجبه تُنزعُ الدولة الملكية من الأفراد مُقابل تعويض يعلل بالمصلحة العامةutilité publique.

أدى المد العمراني المستقطب في السنوات الأخيرة للهجرات القروية إلى بروز ظاهرة المدن العملاقة، التي فاقت التسقيف الذي قدمه الحالمون في حدود 50000 نسمة، بل هناك مدن تجاوزت 30 مليون فرد كما هو الحال بالنسبة لعاصمة المكسيك، نيو مكسيكو، أو القاهرة التي يبلغ سكانها حليا ما يزيد عن 16 مليون نسمة، والأمثلة متعددة بدول الشمال والجنوب. أدى هذا الازدحام المصاحب للتصنيع، وحتى في غيابه، إلى ارتفاع حدة المشاكل البيئية، وتعمق الأزمات الاجتماعية، وتدني المؤشرات الاقتصادية، فسادت الجريمة، وتراجع الإحساس بالأمن، وازدادت البطالة، لكن مشروع المدينة السعيدة لم يمتْ، لأنه خطاب من أملٍ، أو على الأقل جزء منه، ستحمله تيارات جديدة مطالبة بالحق في بيئة سليمة للجيل الحالي وللأجيال القادمة. فكيف جاء ميلاد خطاب التنمية الحضرية المستدامة؟

تبلورت أفكار التنمية الحضرية المستدامة على مراحل عدة، إرهاصاتها الأولى والجنينية ابتدأت من اجتماع نادي روما المنعقد سنة 1960 حول موضوع تخفيض الإنتاج أو ما أصبح يعرف في خطاب الخبراء بـ "اللانمو" Décroissance، الذي عرف حضور مختصين من أقطار العالم للتنبيه إلى مخاطر الاستمرار في رفع وتيرة الإنتاج دون هوادة وانعكاس ذلك على جودة الحياة.

وللإشارة فالمهدي المنجرة كان من بين الحضور في هذا اللقاء الهام الذي سيمهد لظهور النادي الصناعي سنة 1968، وبعده ستنطلق صيحات للمطالبة بتحميل مسؤولية تدهور البيئة للملوث، ما يعرف بمبدأ "الملوث المؤدي"، وفعلا ستتبنى منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OCDI) انطلاقا من عام 1971 هذا المبدأ وستروج له على نطاق واسع. سيُدعم خطاب "اللا نمو" بصدور كتاب تحت عنوان " توقف النمو" Halte à la croissance من إعداد فريق العمل بجامعة M.I.T الأمريكية سنة 1972. تحت ضغط "الحالمين الجدد"، أي الخضر، من علماء ومن جمعيات المجتمع المدني ستظهر وزارات مكلفة بالبيئة بدول الشمال، على الأقل لامتصاص ضغط المجتمع، مما سيجعل الأمم المتحدة تنخرط في التوجه البيئي بإخراج إلى الوجود "برنامج الأمم المتحدة للبيئة" (PNUE) وكذلك "برنامج الأمم المتحدة للتنمية" (PNUD) من أجل حث دول العالم على دمج المقاربة الاجتماعية والبيئية عند إعداد المشاريع التنموية. فمفهوم التنمية المستدامة سيخرج إلى الوجود سنة 1987 مع تقرير لجنة برانتدلاند Brundtland التي بلورت المفهوم المطالبة بتنمية "تستجيب لحاجيات الحاضر من دون أن تمنع الأجيال القادمة من تلبية حاجياتهم".

4. هل التنمية الحضرية المستدامة هي الحل للأزمة؟

من "قمة الأرض" المنعقدة بريو ديجانيرو بالبرازيل سنة 1992، ستصبح التنمية المستدامة مشروعا تحت رعاية منظمة الأمم المتحدة، وستصادق 170 دولة على برنامج العمل للقرن 21، ما يعرف بـ "Agenda 21". ومن هذه الدول دول ستشرع عند نهاية التسعينات من القرن الماضي، في إنجاز خطاطات وطنية ومحلية للتنمية المستدامة تُعطى فيها الأولوية للجانب الثقافي، الاجتماعي، والبيئي بمشاركة السكان، وانطلاقا من تحديد الحاجيات كما نصت عليه رزمة الوثائق المرجعية لقمة ريو البرازيلية.

توالت المؤتمرات المنعقدة تحت شعار إنقاذ كوكب الأرض على ضوء التغيرات المناخية، بصدور بروتوكولات سواء لتسويق الكاربون أو اقتراح آليات لتفادي إزالة الغابات المتفق عليهما بكوبنهاغن سنة 2009. بالنسبة للمدينة كموضوع ستخضع هي الأخرى وفي السياق نفسه لمفهوم التنمية الحضرية المستدامة وسيزكيه هنا ميثاق ألبور "1994La Charte d Aalborg"، كمنهجية معتمدة عند التخطيط تراعي الحاجيات الآنية والمستقبلية وتحتكم للتوفيق بين ما هو اقتصادي، اجتماعي، ثقافي، وبيئي بمشاركة المؤسسات، القطاع الخاص، والمجتمع المدني.

النتيجة بعد هذا المسلسل هي امتناع بعض الدول الكبرى عن المصادقة على البروتوكولات لتفادي الالتزام بتقليص الإنتاج خوفا من أن تتعرض شركاتها للخسائر، ومرة أخرى فالشركات متعددة الجنسيات ستقوم استباقا بشراء هكتارات من الغابات في العالم من "أجل المضاربة بها في السوق الجديدة"، مما جعل ثلة من الباحثين يقولون عن تقرير براندلاند إنه ذو طابع طوباوي، ومثالي شبيه بالنظرية الأفلاطونية، يصعب تطبيقه مع وجود اللوبيات القوية. إن مرجعية التنمية الحضرية المستدامة، وعلى مدى عشرين سنة الأخيرة، تواجهها صعوبات جمة عند نقلها كخطاب دولي وإنزالها كآليات لتخطيط المدن من أجل تدبيرها وفق تصور حكيم، أو ما بات يُعرف بالحكامة الجيدة. الكلام عن الحكامة الجيدة على كل لسان لكن أين اختفى الحكيم الجيد يا ترى؟ أم إن الحكامة لا تحتاج إلى الحكيم إطلاقاً؟

على أي، فالفارابي (المعلم الثاني) شبه المدينة الفاضلة بالصحة، على حد تفسير الدكتور سالم العيادي، فعند اعتلال الجسد يقوم الطبيب بعلاج المرض من مرجعية علمه بالوضعيات الصحية التي يكون عليها جسم الإنسان (الطب)، فمرجع الصحة هنا ليس اختراعا بقدر ما هو اكتشاف للحالة الطبيعية الأولى، وهي مؤشرات الصحة. أما بالنسبة للمدينة المريضة فوجب الرجوع إلى المبادئ الأساسية الأخلاقية المستمدة من العلم الإلهي ومن نتائج الفيزياء والبيولوجيا لتقديم التصور الحق، بالعودة إلى تفسير الدكتور محمد قشيقش لنظرية الإنسان في فلسفة الفارابي. مما يفتح تدبير المدينة على أهم قضية وهي البعد الأخلاقي "لترتيب رابطة الفرد بالمجتمع وبذاته".

خلاصة القول

تعددت مضامين الخطابات حول المدينة وحول الوضعيات الموصلة إلى جودة الحياة، بالترويج للسعادة بخلفياتها "الخلقية، والنظرية، والفكرية، والصنائع العلمية وممارستها"، وبالتسويق للتنمية الحضرية المستدامة بمفاهيم مثل: "الرقمنة، المسؤولية الاجتماعية للشركات، الحكامة، والعولمة"، لكن الجناح المستفيد من المدينة المريضة في كل مرحلة تاريخية يُفرغ هذه المفاهيم من محتواها ويختزلها في ما هو تقني محظ، أي قدرة "الرأسمالية التكنولوجية" على تجاوز اضطرابات المدينة بنمو عال في أفق قد يصل مداه الزمني إلى "خمس مليارات سنة وعندئذٍ ستنفجر الشمس"، والكلام هنا للاقتصادي الأمريكي بول رومر Paul Romer. فعلا يتبين أن أفكار الحكماء تُنعتُ في كل وقت بالطوباوية والمثالية، ورغم توالي الأزمات التي تمر بها الرأسمالية، والحروب المدمرة، ما زال العالم تحت سيطرة الشركات العملاقة. لقد كشف فيروس كورونا المستجد عن المعركة التي تدور رحاها بين أنصار المادية والقطب المثالي، ويتبين أنها لم تحسم بعد، في حين عاد الحمام إلى الساحة وبقوة، وهديله قد يُنصف البشرية من دون إراقة المزيد من الدماء.

 

غيلان خالد