غزوة كورونا لبني البشر ، لو حدثونا عنها فيما سبق وقيل لنا بأنها ستقع وتكلموا لنا عنها بنفس التفاصيل التي تحدث أو حدثت خلال الأشهر الماضية ، لقلنا لهم ، خيالكم هذا يمكن أن يقود إلى إخراج فيلم خيال علمي ناجح ولكنه إخراج لا يمكنه أن يلامس الواقع في أي وقت من زمننا القادم ، لأن نهاية العالم التي سمعنا عنها ونحن صغار وقرأناها في الكتب الدينية ستكون سريعة و سوف تحدث فقط بعد ظهور كل العلامات الكبرى التي تسبق فناء الخلق العظيم على الأرض ، ولكن ربما أهل العقد والعزم من العلماء والأطباء المختصين في علم الفيروسات استشعروا عِظم الخطر الذي يُمثله هذا الفيروس على الجنس البشري إذا لم تتم التضحية بكل ما يُضحى به اليوم لحصر الوباء ، وبعد اتخاذ كل الخطوات الغير المسبوقة من كل دول العالم ، أصبحنا نرى وجه العالم في حالة خوف شديد ورهبة لم يُجربها من قبل ولا زال لا يعرف متى ستتوقف وأين ستتوقف ، القادة يوقفون الاقتصاد ويقفلون الإدارات وينهون الحركة والتجوال بين المدن والدول بمختلف وسائل النقل ويطلبون من مواطنيهم صباح مساء ملازمة منازلهم ، دون جرم اقترفوه ، وعشنا حتى شاهدنا لأول مرة في تاريخ المحاكمات ، الضحية يُحكم عليه بدخول السجن والمتهم الذي تسبب في سجنه حرا طليقا يعيث فسادا في جوف فريسته الذي لا ينفذ حكم سجنه ويستمر في الاستهتار سطوة وقوة وعدوانية هذا المتهم الخفي ، وأصبح كل ما يهم ضحايا هذا المجرم العبقري بعد أن كانوا مهوسين كل مساء بمتابعة التيرمومترات التي تُخبرهم عن درجة الحرارة ونسبة الأمطار والثلوج المتساقطة أو التي ستتساقط في بلدتهم والمدينة أو الدولة

التي يُحبون سماع أخبار طقسها ، أصبحوا مع عدوهم الخفي متعطشون كلما استيقظوا كل صباح لمتابعة تيرموتر يحصي عدد الإصابات والوفيات في بلدهم ، وينتقلون بعده لمتابعة ما يجري كذلك في دول أخرى وأقصى أمنياتهم أن يستمروا في مصادفة انخفاض مؤشر الوفيات والإصابات في كل دول العالم ، لأنهم باتوا يؤمنون بأن مصيرهم مرتبط بشكل كبير بمصير الأخرين حتى ولو كانت تفرقهم آلاف الكلمترات ومختلف الديانات والمعتقدات ، وبكل اختصار وصراحة لم نكن لنصدقها فيما قبل ، مع فيروس كورونا سقطت من أعيننا قوة وذكاء الإنسان وقدرته التي بدت لنا خلال السنين الأخيرة وجعلنا نؤمن ونعتقد أننا قادرون حتى على مواجهة الفضائيين في كل حرب مستقبلية يشنوها علينا ، وقدرتنا على الانتصار عليهم بالصواريخ النووية التي تمتلكها القوى العظمى والتي بينت لنا محنة كورونا أننا وثقنا فيها أكثر مما يلزم ، وختمت على أعيننا عدوانية الفيروس في الاكتساح ونشر العدوى والفتك برأسمال وتاريخ العنصر البشري الممثل في المسنين منهم ، ولم يقف عند هذا الحد بل زاد حين جعلنا نشاهد ما لا عين رأت وشنف أسماعنا وما زل بما لا أذن سمعت وجعلنا نعيش أوقاتا وحياة لم تخطر على بال بشر، ويكفينا أن نعرف أنه سجن ملايير من البشر في منازلهم والقليل منهم من يتحركون خارج منازلهم بقيود مشددة بقيود المكان والزمان ، والتبعات التي ستكون عن هذا السجن الكبير والحجر الطويل بعد حين أو بعد وقت طويل لا يعلمها إلا الخالق وحده ، فمن المؤكد أنها ستكون مكلفة جدا لبني البشر على المستوى النفسي والسلوكي والعصبي ، لأن جلوس الفرد في المنزل بدون إرادة وتحت وطأة الخوف من العدوى إن خرج ، ستكلفه كلفة كبيرة آجلا أو عاجلا على مستوى نفسيته وسيكولوجيته ، وستترك في تضاريس خريطته النفسية والعصبية ندوبا ستختلف باختلاف كل إنسان أثناء استمرار الحجر أو بعد رفعه ، وإذا كنت أعتقد وأخمن بأن كل المهن والقطاعات بعد اختفاء العدوى ستضرر ولن تعود إلى سابق نشاطها العادي إلا بعد سنتين أو ثلاث سنوات على الأقل ، فإن المهن التي ستتحرك مع استمرار الوباء أو بعد اختفائه هي عيادات الأطباء المختصين في الأمراض العصبية والنفسية بعد انتشار الرهاب المرضي والوساوس القهرية والمخاوف المرضية من لمس كل شيء أو الاقتراب من كل أحد بشكل لم يسبق له مثيل ، وسيكثر الطلب كذلك على الأدوية المهدئة والمسكنات التي يصفها هؤلاء الأطباء ، وكل هذا ليس ببعيد عنا و نحن نطالع الأخبار كل يوم أو نسمع عنها في محيط حينا أو مدينتنا التي تؤكد أن هناك ارتفاع لحالات الانتحار و ارتفاع في الاضطرابات الاكتئابية المتعلقة بالحزن الذي أصبح الفرد يعيشه مع أخبار كورونا اليومية والقلق الذي لا

شك سيسبب قلقا على مستقبله وخوفا من مستقبله المهني والعائلي والأسري ، وتفكيرا دائما في فقدان عمله ، كذلك سيجد عدد كبير من الأفراد نفسهم في مواجهة عسيرة للتكيف مع حياتهم الجديدة والتأقلم معها ، مما سيؤدي بهم إلى إجهاد نفسي كبير، وستتغير حياة الأغلبية بعدما زاد إدمانهم خلال فترة الحجر الصحي على هواتفهم الذكية ومتابعة كل جديدها وخصوا أخبار الوباء المخيفة التي لا زالت لا تبشر بالخير ، لساعات طويلة خلال الليل و تستمر حتى الصباح ، ومع حياتهم الجديدة يتغير توقيت نومهم الذي بات يبدأ عند العديدين مع الساعات الأولى من الصباح ويستمر نومهم لما بعد منتصف النهار ، وكل هذا سيؤدي بهم لا محالة إلى اضطرابات في النوم والتغذية ستجرهم لا محالة في القريب العاجل إلى عيادات المختصين في الأمراض النفسية والعصبية ، سيصاب عدد كبير من الأفراد باضطرابات نفسية وعصبية لا قبل لنا بها سترفع مرضاها إلى مستويات غير مسبوقة وستكون الصحة النفسية والعقلية والعصبية التي سيخلفها فيروس كورونا كبيرة وستحتاج إلى وقت طويل وكفاءات طبية كثيرة العدد للتغلب عليها .

وهذا يجعلنا نصل إلى أن مصائب فيروس كورونا لن تمس فقط اقتصادات البلدان وتنزله من جنات النعيم إلى صحراء العوز والضائقة بل ستنخر وتلعب بصحة مواطنيهم النفسية والعصبية وسينقل البعض منهم من عالم العقل والتعقل والتوازن إلى عالم الجنون والمرض النفسي والعصبي المتعدد الصور .

وتدهور الصحة النفسية والعقلية والعصبية لمن كانت حالاتهم عادية قبل الوباء ، آتية بدون شك ، لذلك فنحن لن نحتاج فقط إلى اجتهاد علماء الفيروسات لا يجاد العلاج و اللقاحات التي ستقضي على الفيروس إلى الأبد وإلى الخطط الاقتصادية التي ستجعل الدول تتجاوز الأزمة والانكماش الاقتصادي الذي دخلته الدول ومازالت تتجرع من سيل مياهه المنهمرة عليه بدون توقف ، بل سنحتاج أيضا إلى علماء وأطباء مختصين في الأمراض النفسية والعصبية عليهم العمل منذ الآن على دراسة التأثير الذي يخلفه أو سيخلفه الوباء على مستوى الصحة النفسية والعصبية ووضع الخطط اللازمة لمواجهة الموجة المنتظرة من مرضاه .

 رشيد وهابي