تقتضي نهضة الأمم المبدعة من بين ما تقتضيه، القيام بمراجعة للذات والوقوف على تاريخها وتجاربها الخاصة، على نحو يكون الهدف منه الاستمداد من إرثها الثقافي والمعرفي والإفادة منه، وهذا ما قام به رجال النهضة الأوروبية في القرن السادس عشر، كما وجدنا اليابانيين قد قاموا به في القرن التاسع عشر، والعمل ذاته كان متضمنا في فكر رجال النهضة العربية الإسلامية، في الفترة التي امتدت بين منتصف القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.

لكن من أغرب الأمور أن يتنكر المرء لذاكرته ولتاريخه ولتجربة أمته مهما كانت أحداثها ومجرياتها، وكأن الأمر متروك للإنسان أن يختار تاريخه أو يرفضه، فليس بمقدور أحد محو تاريخه أو تجاهله لأنه جزء من كينونته وشخصيته وثقافته أحب أم كره: "نحن في التراث كما نحن في العالم، لا اختيار لنا معه ولا انفصال عنه". ومن العجيب في الأمر أننا لم نجد أحدا في الحضارات الأخرى، يتنكر لتاريخه ويقفز على تجربة قومه مهما عظمت أو صغرت، إلا عندنا فتجد الواحد منا يمحو بجرة قلم وبكلمة تاريخ أمة بكامله. وهذا يصدق إلى أبعد حدود على موافق الأستاذ عصيد، الذي لا يترك فرصة إلا وعرّض بتاريخ المسلمين وسعى للنيل منه والتشكيك فيه.

مثل هذا الصراخ على هامش المجتمع لا يحقق نهضة، ولا يشوش على تاريخ المسلمين الطويل الذي أبدعته عقول مسلمة من مختلف الأجناس، فالتاريخ تشهد صفحاته أنه لم يكتب النجاح لكل المشاريع التي تأسست بنفس إيديولوجي حاقد ومتحيز، وأنها ذهبت أدراج الرياح "فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض".

إن موقف عصيد من تاريخ المسلمين وادعاءه الانفصال عنه والقطع النهائي معه، إنما هي دعوة وادعاء لا يقوم على دليل متين وأساس رصين، فهو لا يعدو انفعال وردة فعل متسرعة من إنسان قد يحترم كل الثقافات إلا الثقافة العربية الإسلامية، فصاحبنا الذي يدعي العقلانية تراه أمام تاريخ وتجربة الغرب منبهرا ومستلبا، بل يصير مقلدا لهذه التجربة متبنيا لأطروحاتها دون إعمال المنهج النقدي والعقلي الذي يدعيه، إن مثل هذه المواقف تنم عن مراهقة فكرية غير واعية، وعن استلاب واضح لعقل صاحبها لأنه من غير المبرر أن تدعو إلى تجاوز تاريخ أمتك وتناصر بل تستلب من تاريخ آخر، يقول الدكتور الجابري وهو يصف مثل هذه الحالات المنفعلة والمواقف المتسرعة: "لن نستطيع تثبيت كياننا وبناء مستقبلنا إلا إذا عالجنا العلاقة، بين تراثنا وثقافة العصر معالجة فاعلة، لا انفعالية أساسها نظرة جدلية واعية، ومن هنا ضرورة إعادة قراءة التراث والفكر المعاصر، برؤية جديدة رؤية شمولية، جدلية تاريخية لا تقتل الخاص في العالم ولا تتقوقــــع في الخــاص على حســـاب العــــــام".

إن مطارحات عصيد لا تعدو كونها مواقف إيديولوجية، تستحضر خصما سياسيا تريد النيل منه، وليست موافق معرفية تأسست على دراسات علمية، هي في النهاية مواقف فرضتها مجريات سياسية. وإلا فانظروا إلى مواقف الكبار الذين خبروا التراث: "عندما يتعلق الأمر بتراث كالتراث العربي الإسلامي، لا بد من مراعاة خصوصيته، وأحد عناصر هذه الخصوصية هو كما قلنا العالمية والشمولية، إن التراث العربي الإسلامي عالمي، بمعنى تراث حضارة عالمية، حضارة إنسانية في فترة من تاريخها، إن الثقافة العربية الإسلامية كانت تمثل خلال أوج ازدهارها ثقافة عصرها على مستوى عالمي، فلم تكن محدودة ولا منغلقة، والتراث العربي الإسلامي فضلا عن طابعه العالمي الإنساني، تراث يتصف بطابع الشمولية، فهو يتناول جميع مناحي الحياة الجماعية والفردية والاجتماعية والفكرية، إنه تراث حضاري بأوسع معاني كلمة الحضارة".

إن زلات عصيد تجاه تاريخ المسلمين أكثر من أن تحصى، ولكن سأناقشه اليوم في واحدة وهو قوله: "أن الدين لا يمكن أن يكون دولة، وأن الدولة لا يمكن اختزالها في دين معين".

إن مقتضيات البحث العلمي تقتضي عدم الجزم في أي ادعاء، لكن لغة الإيديولوجية تفضح صاحبها، فهذه ليست نتيجة معرفية بقدر ما هي أمنية عصيدية، فلو قال أنا أتمنى ولا أريد للدين أن يحكم، لكان منسجما مع ذاته ولأعفانا من مناقشته، لكن أن يقول إن الدين لن يكون دولة فهذا كذب على التاريخ لأنه كان وتحقق، نعلم أن نصوص القرآن لا تسعفنا بكثير من الشواهد التي تدل على مركزية المسألة السياسية، وهذا أمر مرتبط بالمنهجية المعرفية القرآنية، التي لم تجعل أمور السياسة والحكم من أركان الدين، ولم ترفعهما إلى درجة الواجب الديني، وإن كانت هذه النصوص تحمل في طياتها سواء بالتلميح أو التصريح قيم ومبادئ الحكم الرشيد، كقيمة العدل والحرية وكرامة الإنسان ومفهوم الأمة، لكن التجربة التاريخية الإسلامية تؤكد أن المسلمين أسسوا لأنفسهم كيانا ودولة، لأن قدر الإسلام أنه هو أساس الدولة: "إن تلك الدولة المدينية هي أول دولة فعلية نشأت في تاريخ الحجاز، في حدود ما لدينا من مصادر، قامت دول عربية عديدة في الحقبة الجاهلية وتحديدا في جنوب الجزيرة العربية اليمن، وحضرموت لكن نظيرا لها في الحجاز لم يقم قبل دولة المدينة". وأن المسألة السياسية حاضرة في حياتهم اليومية: "طيلة تاريخهم المديد لم يتوقف المسلمون عن تنزيل مسائل السياسة والدولة والسلطان السياسي منزلة الموضوع الأجدر بالعناية، غير أن المسلمين في هذا الباب مختلفون عن سواهم في أن السياسة والسلطة ليستا تفصيلا في اجتماعهم الديني، ولا يمكن الوسع والنظر إليهما كحيزين مستقلين عن ذلك الاجتماع، بل هما باب في كتاب الشرع، وفي أنهما تماهيا مع جماعة المسلمين إلى حد تعذر فيه وعي الفارق بين الزمني والديني".

وكتابات ومؤلفات الأستاذ عابد الجابري عامة وكتابه "الدين والدولة" خاصة. أو كتابات الأستاذ عبد الإله بلقزيز تؤكد مركزية المسألة السياسية في الإسلام وتفرد المسلمين بتأسيس دولة ووضع ميثاق ودستور لها.

خاتمة:

ونحن حين ندعو إلى استحضار وقراءة التراث والإفادة منه، ليس معنى ذلك الجمود عليه وتقديسه، بل على اعتبار أن الماضي ينبغي أن يكون نقطة ارتكاز للانطلاق والإبداع كما تفعل سائر الأمم المبدعة، ولا يجوز بتاتا أن يكون نقطة توقف وجمود ينتهي عندها العقل المسلم، بل قراءة نقدية تساهم في تحرر الشخصية المسلمة من التعامل الذي ظل سائدا في تعاطي العقل المسلم مع تراثه، فكان إما رافضا له رفضا قاطعا، أو متعلقا به إلى درجة تقديسه.

 

مصطفى حضران