تابع.. 

ولئن كان يفترض في مفهوم المسؤولية أن يكون واضحا محددا محكم الدلالة، كما سبق توضيح ذلك، إلا أنه أريد له أن يصبح من المفاهيم المشكلة لدى العديد من الناس، ذلك أن ضبط معناه وتمثُّل حدوده وتحديداته ولوازمه ومقتضياته يتمنّع على فهم العديد ممن لا يريدون الفهم، ويستعصي على أولئك الذين قوْلبوا أنفسهم في خندق، ويسعون جاهدين لإيجاد المشروعية لموقفهم والشرعية لموقعهم..

وحتى نزيد في تشريح المفهوم، دعنا نبدأ من البدء، ونبسط الأمر حد الإسفاف، فنجزئ المشكل ونفصله وننْزله أدنى درجاته الممكنة، فنأخذ مثالا عشوائيا اعتباطيا، في تمثيل مجسِّد بالخشيبات المنقرضة..

لدينا مَشغل يشتغل فيه 9 عمال -هم كل ما يمكن الحصول عليه من اليد العاملة المؤهلة(تماما كما أن الشعب هو المتاح من البشر، ولا يمكن الحصول على أناس آخرين..)- وعاشِرهم رئيسهم الذي ليس له موقع في سلسلة الإنتاج المباشر، بل وظيفته مراقبة حضور العمال، ومواظبتهم، واحترامهم للتوقيت، واشتغالهم أثناء تواجدهم في أماكنهم، واحترامهم للمعايير المحددة في المنتجات، وحرصهم على ممتلكات المعمل... وهو مع هذا(عدم الإنتاج المباشر) يفوقهم في امتيازات الراتب والتعويضات والحوافز والجوائز والعلاوات والمكافآت والمنح والهبات والأعطيات والسلطة والاحترام والاعتبار والحظوة والمقام والأبهة والهيبة والمنزلة وحرية الحركة والمرونة في التوقيت...

فإذا ما أفلس المصنع كليا أو جزئيا بسبب رداءة المنتجات، أو كثرة غياب العمال، أو تأخرهم، أو خروجهم قبل الوقت، أو التوقف عن العمل رغم الحضور، أو الغش في العمل، أو سرقة المواد أو الأدوات... لمن يحمل رب المعمل المسؤولية؟ هل للعمال كلهم، مذنبهم وبريئهم؟ أم لبعضهم(من يحدد هذا البعض؟ وكيف؟ بمعنى أنه هنا أيضا نحتاج مسؤولا!!!..)؟ أم لـ"المسؤول" المعيّن فقط، وخصيصا،، لغرض السهر والإشراف والمراقبة والتسيير؟؟!!!..

بل الأهم: كيف يصلح الوضع؟ هل باستبدال كل العمال -إن وجدوا-، والدخول معهم كلهم في صراعات قانونية وعائلية واجتماعية واعتصامات...؟ أم باستبدال "المسؤول" المكلف الفاشل الذي لم يقم بواجبه الحصري تجاه من أخلّ بواجبه(من العمال) بتصرف وإن كان غير لائق، لكنه كان سيبقى محدود الأثر لو عولج في حينه، وعوقب هذا الجاني؟؟!!!..

بل لمَ يوظف المقاول مسؤولا بكل تلك الامتيازات، إذا كان يعول على "مسؤولية" العمال، ويراهن عليها؟؟!!!..

ذاك نموذج مبسط لتحميل "المسؤولية".. فالعامل مسؤول عن خطئه، غير أن مسؤولية المسؤول عنه هي مسؤولية مضاعفة، بل وتنسخ مسؤولية ذاك العامل ما لم يفعّل في حقه لوازم المساءلة.. فمضاعفات ذلك الخطأ تبقى فردية هامشية معزولة مهملة، إذا ما قام المسؤول بمقتضيات مسؤوليته في الإبان ليحصر الأثر.. كما أن هذا القيام له بُعد آخر أكثر أهمية وأبلغ أثرا، وهو ردع المذنب عن العود،، وزجر الغير عن ارتكاب الخطأ..

وإذا كان هذا مثالا افتراضيا، فإن للحقيقة أوجه واقعية عديدة، شخصيا عايشت إحداها مجسدة في معمل إسمنت مركز "النعيمة" بمدينة العيون الشرقية(عيون سيدي ملوك) غربي وجدة، إثر وقوفه على حافة الإفلاس تسعينيات القرن الماضي، فتم تفويته -في إطار موجة الخوصصة- لشركة أوربية، لتعلن الشركة الجديدة عن أرباح فصلية خيالية في فترة قياسية بنفس الطاقم البشري ونفس البنية التقنية، وكان المتغير الوحيد هو "المسؤول".. بل أكثر من ذلك يفاجئنا عامل من عمال المعمل عن التحسن الكبير في الأجور والتعويضات والعلاوات بما فيها "ثمن أضحية العيد"، التي لم يكن يصرفها المسلمون للعمال، فصرفها لهم النصارى!!!..

والأمثلة تتعدد بتعدد المؤسسات المخوصصة، بل هي أهم علة للخوصصة نفسها!!!..

نعود إلى المجتمع الأكبر.. هب أن أحدا لا يريد الانضباط، بحيث يتصف بكل صفات الخسة والنذالة والدناءة، ولا يؤدي أيا من واجباته، ولا يقوم بغير الكذب والسرقة والغش والخداع والتزييف وكل الجرائم عن سابق إصرار(كما هي التهم الموجهة إلى أفراد الشعب "المتخلفين"،، المسؤولين عن التخلف..)... بخلاصة يرفض كليا الانضباط إلى القوانين المسطرة والأعراف السائدة.. فهل قدر الناس أن يبقوا تحت رحمته، يراهنون على "استفاقة ضميره"، إن تم،، ويؤدي المنضبط منهم ثمن رعونة وسفاهة وطيش ذلك المتهور؟؟!!!..

الأكيد، والحال هذا، أنه لا يعقل الاكتفاء بندب الحظ والنواح والبكاء على الأطلال، والاقتصار على وصف الحالة والحكم عليها "اجتماعيا" وقيميا بأن الظنين غير صالح!!!.. بل يجب العمل على إيجاد حل عملي لهذه المعضلة، وذلك بالبحث عن ردع إجرائي وتفعيله في حقه حتى ينزجر،، ويسلَم المجتمع من شره ويتخلص المتأذون من أذاه..

وبالطبع، وحتى لا يتم اللجوء إلى عدالة الشعب أو شريعة الشارع، فإن الملزم بالبحث عن ذلك الإجراء وإعماله هو "المسؤول المباشر" المخوّل الحرص على تطبيق القانون، المكلف بمهمة السهر على تنظيم الحياة الاجتماعية وسلامة المجتمع.. فهو الذي له الصفة والصلاحية، وهو الذي من واجبه إلزام المخل بالانضباط، وذلك بتفعيل المساطر المعمول بها والإجراءات القانونية الجاري بها العمل في المجال الذي وقع فيه الخرق.. فإذا لم يقم هذا المسؤول المباشر الأدنى بواجبه وجب على مسؤول عنه أن يفعّل الإجراءات على الجانييْن،، وهكذا إلى أعلى الهرم...

كما مضى في مقال سابق من السلسلة، القاعدة إذن ثابتة واضحة، وهي تقتضي أنه في حالة ما إذا لم يقم شخص(منتخب أو موظف أو مسؤول، أو فرد من أفراد الشعب) بواجبه في مهمته، فإن المسؤولية تقع على رئيسه في ممارسة مقتضيات المسؤولية قصد مراقبته ومحاسبته ومساءلته وضبطه وتقييمه وتقويمه، وإذا لم يقم هذا الأخير بدوره فإن المسؤولية تصعد درجة إلى رئيسه هو أيضا... وتتقدم المتتالية وترتقي وترتفع حتى تصل إلى أسمى مسؤول الذي تقف عنده تراتبية المسؤولية،، وهو رئيس الدولة، المسؤول الأول لأنه هو طرف التعاقد الوصي القائم على القائمين على الحقوق.. فإن قام بواجبه استقام كل من تحت إمرته رغبا ورهبا("أكلة البطاطس")، وإن لم يفعل، بقي الحال كما هو عليه الآن: فوضى،، وصفقات...

إن "المواطن" البسيط لا يفقه كثيرا في التعقيدات البيروقراطية، ولا تهمه.. هو فقط يعرف أن لكل فعل فاعل، ولكل حالة موجد، ولأية مؤسسة مسؤول، وعليه فأي "خطأ" يجب أن يحاسَب عليه أحدهم، ويجب أن يصلحه أحدهم.. أما متاهات الاختصاصات فهو ليس مجبرا على معرفتها ما دام هناك "مفوَّض" منسِّق لكل أجهزة "الدولة" وهياكلها ومؤسساتها.. هو المسؤول عن كل سياسات البلاد وتوجهاتها، وهو المخول المفترض لحمايته من عبث العابثين، وهو من لا يعصى له أمر، وهو الثابت في كون الكواكب السيارة، وعليه تقوم مسؤولية التقويم حين الاعوجاج إعمالا لمبدأ ومفهوم المسؤولية من حيث الوجود،، وهو المخاطب..

إن الناس ناس والمقدّرات مقدرات، وقد جعلها الله متماثلة في كل البلدان، غير أن الفارق الذي رفع الناس وعدل ورشد في استغلال المقدرات هنا، أو ظلم الناس وجار في الاستغلال هناك،، هو المسؤول.. هو من قدّم دولة،، ودمر أخرى..

لا يمكن أن نتهم التلاميذ/الطلاب بالمسؤولية عن تدني المستوى التعليمي بحجة أنهم لا يذاكرون، وإن كانوا فعلا لا يذاكرون.. لم تقم بهذا الاتهام مؤسسة في العالم عبر التاريخ..

يتبع..



سعيد المودني